المؤسّسة القاتلة نزاع الحياة والموت! (٨) – الأرشمندريت توما (بيطار)
عندما يُهمَّش الطّابع الرّوحيّ والمضمون الخلاصيّ والبُعد الأخيري (Eschatologique) لخدمة الكلمة؛ وعندما تكفّ خدمة الكلمة عن أن تكون مجالاً لتفتّح المحبّة الإلهيّة، في الكنيسة، وتعاطيها والشّهادة لها؛ فإنّ الخدمة لا تعود خدمة إلهيّة إنسانيّة، بل غطاءٌ لفعل تسيّد بشريّ، ولا تعود الكلمة مدًى للحضور الإلهيّ الحيّ، بل واقع دهريّ مُزيًّا بشعارات “إلهيّة”، مفروضٌ، وضعًا، ويزعم القابضون على زمام الكلمة فيه، أنّ لهم سلطانًا، على المقامين عليهم يستمددونه من فوق!.
كيف يكون الحال، إذ ذاك؟.
اختيار خدّام الكلمة يتمّ وفقًا لاعتبارات بشريّة: شهادة علميّة، اعتبارات مسلكيّة وفكريّة، سنوات خدمة… وما لا يُذكر على ورق، ممّا قد يكون أشدّ تأثيرًا من سواه من الاعتبارات “الرّسميّة”، كالصّداقات غير النّقيّة، والانتماء إلى محاور متصارعة، والمحسوبيّات… وقد تلعب السّيمونيّة والتّبعيّة إلى جمعيّة سرّيّة أو زعامات دهريّة نافذة أو ما شاكل، دورًا أساسيًّا في الاختيار!. مثل هذه الاعتبارات وسواها تجعل عمليّة الانتخاب، في روحها وانحطاطها، لا تفرق عن أيّة عمليّة انتخاب مدنيّ!.
طبعًا، تكريس خدّام الكلمة يتمّ، في العادة، وفقًا للأصول، كما لو كان التّمسّك بالتّيبيكون كافيًا لتأمين استقامة الرّأي في الممارسة!. الغيرة الطّقوسيّة تبدو، والحال هذه، الشّرط الأبرز لإضفاء جوّ من الأرثوذكسيّة على اجتماع المؤمنين!. شكل الانتخاب، شكل التّكريس، شكل الطّقوس، تنال، لدى خدّام الكلمة والعامّة، سواء بسواء، الحيِّز الأكبر من الاهتمام!. بيُسرٍ، تُترَك الرّوحيّات والخلاصيّات والأخيريّات ، رخوةً، لاستنساب الأشخاص، وتُترَك المحاسبة، في شأنها، لله، في اليوم الأخير!. كأنّ الكنيسة تتخلّى، والحال هذه، عن دورها الإصلاحيّ، وتقول للفاسدين والضّالين: “موتوا في مفاسدكم وضلالاتكم… هذا شأنكم”!. القدوة، في هكذا مناخ، قلّما تؤخَذ في الحسبان!. الأهمّ، في الممارسة، يكون المحافظة على المظاهر برّاقة، والإمعان في إخفاء المعايب، وضرورة التّستّر على الفضائح، حفظًا لكرامة الكنيسة(!!!)، كما يزعمون، ورحمةً بمرتكبي الموبقات(!!!)، كما يصوِّرون، واجتنابًا لإعثار النّاس(!!!)، كما يدّعون، والبقاء بعيدًا عن أضواء الإعلام(!!!)، لأنّ هذا يسيء (!!!) …إلى سمعة الطّائفة!. أمّا الإساءة إلى الله وكنيسته، فلا تُحسَب… لأنّ الله مسامح(!!!) فيما أكثر النّاس، أكثرَ الأحيان، في مشرق يحبّ القال والقيل، يعرفون أكثر ما يجري في العلن وفي الكواليس، وأكثر، ويتسامرون ويتندّرون في شأنه!.
والعامّة، بنتيجة ذلك، يصير لها خدّامُ الكلمة موضوعَ شكّ!. لا فقط، قلّما تجد، بسهولة، مَن يعتبرونه قدوة صالحة، أكثر من ذلك أنّه، من ندرة القدوات، يعمِّمون أنّ “رجال الدّين” كلّهم فاسدون!. وبسهولة، أيضًا، يخترعون عليهم المفاسد ويشيِّعونها!. بسهولة، تُهَمُ الفجور ومحبّة المال والمجد الباطل، والجلوس إلى موائد الأغنياء والسّياسيّين، تجري على ألسنة العامّة، في شأنهم!. ما يزرعه الإنسان إيّاه يحصد!. نزرعْ قدوات رديئة نحصدْ جمًّا من الشّكوك والظّنون والإشاعات والتندّر بأخلاقيّات النّاس… ناس خدّام الكلمة… حتّى القدّيسين منهم!.
في تاريخ الكنيسة، كان هناك، دائمًا، خدّام كلمة مزيَّفون!. لكنْ، همُّ خدّام الكلمة الأصيلين وسعيهم الدّؤوب، كان، دائمًا، تنبيه المؤمنين، ورعاية ضعاف النّفوس، وكشف زيف المزيَّفين، ومقاومتهم، وإصلاحهم حيث أمكن الإصلاح، وقطعهم حيث لا إصلاح يُجدي!. كلّ ذلك في إطار حفظ القدوة الصّالحة والصّلاة والسّهر والدّموع والحرقة!. “مَن يعثُر”، صرخ بولس، “وأنا لا أحترق”؟!. “تعلمون كيف كنّا نعظ كلّ واحد منكم، كالأب لأولاده، ونشجّعكم ونُشهدكم لكي تسلكوا كما يحقّ لله” (1 تسا 2)؟ “لكي نُحضر كلّ إنسان كاملاً في المسيح يسوع” (كو 1)!.
روح قوّة الله كان هو الفاعل في مَن أحبّوا الله أكثر من أنفسهم!. إذا لم يكن لنا مَن يحبّون الله أكثر من نفوسهم، فعلينا أن نستنزلهم، بالصّوم والصّلاة والدّموع والسّجود، من فوق، والمجيء بهم ولو من أقصى الأرض، استجابة لدعوة رب الأرباب أن “اطلبوا من ربّ السّماء أن يُرسِل فعلة إلى كرمه”!. ما همّ إن كان خادم الكلمة من “قبيلتي” أم لم يكن؟!. لبنانيًّا، سوريًّا، عراقيًّا، تتريًّا!. القدّيس نيقولاوس، المتسقِّف على ميرا ليكيا، كان غريبًا عن أهلها!. القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ، رئيس أساقفة القسطنطينية، كان أنطاكيًّا!. القدّيس نكتاريوس، رئيس أساقفة القسطنطينية، كان طرسوسيًّا!. القدّيس أندراوس الكريتيّ كان دمشقيًّا!. القدّيس أمبروسيوس، أسقف ميلان، كان عاميًّا، لا علاقة له بخدّام الكلمة!. كيرللس ومثوديوس كانا غريبَين، عرقًا، عن الشّعوب السّلافيّة!. ميخائيل، أوّل أسقف على الرّوس، كان أنطاكيًّا؛ ثيودوروس كانتربري، موحِّد الكنيسة ومنظّمها في انكلترة، كان طرسوسيًّا؛ إيريناوس اللّيونيّ كان من آسيا الصّغرى!. ليس معقولاً ولا مقبولاً أن ننحدر إلى درَك نؤثر فيه العاديّين لأنّ أصلهم عربيّ على اللاّمعين في الرّوح لأنّهم من أهل المهاجر، غرباء عنّا(!)، وليسوا من هنا!. إنّها لأزمة حقّانيّة أن نبحث عمّن تتوفّر فيهم مواصفات دهريّة قبليّة عصبيّة، من غير مبالاة، في العمق، بكونهم رجالاً لله، بالرّوح والحقّ!. هذا انحدار مرعب!. باسيليوس الكبير، عندما أورد غريغوريوسُ الشّيخ، والد غريغوريوس اللاّهوتيّ، اسمَه أسقفًا على قيصريّة، قال أعضاء المجمع: “صحّته تعيسة”!. فقال لهم القدّيس غريغوريوس: ماذا تريدون؟ أتريدون رجلاً لله أم مصارعًا؟!.
لماذا ينبغي أن يُحسَب حسابٌ لكلّ الاعتبارات الدّهريّة، وباسم الله، ولا يؤخَذ رضى ربّك في الاعتبار أوّلاً؟!. كيف تصرّف البطريرك ألكسندروس، بطريرك القسطنطينيّة، عندما شعر بدنو أجله؟ سئل بمَن يشير خلفًا له، فكان جوابه: إذا رغبتم في راع فاضل وصاحب إيمان قويم وعِلم جزيل فعليكم ببولس الكاهن!. وإذا ما آثرتم رجلاً وسيم الطّلعة، فصيح اللّسان، يتقن مراسم العظمة، ويتبع مظاهر الجلال، فعليكم بمكدونيوس الشّمّاس؟ فكان لمّا فارق ألكسندروس الحياة، أنّ المجمع المقدّس اختار بولس الّذي صار معترفًا قدّيسًا عظيمًا، فيما صار مكدونيوس صاحب الهرطقة المعروفة ضدّ الرّوح القدس!!!.
الكنيسة، في ذلك الزّمان، كانت حيّة!. تسآلنا: ألا زالت، بعد، حيّة أم تترنّح في خَدَر عظَمَة الماضي؟!. الشّعور الّذي يكدّنا ألف مرّة كلّ يوم، أنّنا في حال المرض الموجع!. لا نريد أن نموت ولن نموت، بإذن الله وعونه، حتّى تأتي السّاعة الّتي نقول فيها: مبارَك الآتي باسم الرّبّ!.
الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي
دوما – لبنان
5 تموز 2015