المؤسّسة القاتلة: التماسًا للحرّيّة الدّاخليّة!(9) – الأرشمندريت توما (بيطار)

mjoa Monday July 13, 2015 122

المؤسّسة القاتلة: التماسًا للحرّيّة الدّاخليّة!(9) – الأرشمندريت توما (بيطار)

   لكي تكون خادمًا صالحًا للكلمة تحتاج لأن تكون حرًّا. ليس في الكنيسة عبيد. لا يستخدم ربُّك عبيدًا. عبيد الله يستعبدون أنفسهم، بالمحبّة، لله وخَلقِه، على غرار معلِّمهم الآتي خادمًا لا مخدومًا، عبدًا لا مستعبِدًا، ولا يستعبدهم أحد أو شيء!. لذا خادم الكلمة عبدٌ، في عين نفسه، بإزاء ربِّه وخليقته، لكنّه سيِّد، في عين الله، في نظرة ربّه إليه!. ولأنّه يعرف أنّ ربّه رفعه، بالمحبّة، إلى مرقاة السّيادة، فإنّه يعرف، بالمحبّة عينها، أن يسلك كعبد، لأنّ الشّريعة الجديدة الّتي سنّها ربّك هي هذه: مَن أراد فيكم أن يكون، أوّلاً، سيّدًا، فليكن عبدًا للجميع وآخر الكلّ!.

   هذه حرّيّة الرّوح، هذه حرّيّة الأبناء، هذه حرّيّة رجال الله، هذه هي الحرّيّة الدّاخليّة!.

freedom-internal   خدمة الكلمة لها هدف أساسيّ واحد: أن تُنشِئ النّاس على الحرّيّة الدّاخليّة!.

   خارج نطاق حرّيّة الرّوح، الإنسان عبد. العبوديّة مفروضة عليه. لا يقدر إلاّ أن يكون عبدًا. تستعبده، أوّلاً، أهواؤه، عنوة. أهواؤه، أي رغبات نفسه العميقة. بلا روح، بلا محبّة، الإنسان مغلَق عليه، أسير نفسه، يدور في فلك ذاته. مهما اتّسعت دائرة حركته، خارج نفسه، فإنّه لا يتعاطى سوى ذاته في كلّ شيء، وفي كلّ أحد. العالم مداه الذّاتيّ والآخرون مجرّد أدوات لديه. ولأنّه مستعبَد لأهوائه فإنّه عبد للنّاس كائن، لكنّه عبد لهم في الظّاهر، يرائي، ولا يستطيع إلاّ أن يرائي، في تعامله معهم، لأنّ همّه أن يحقِّق أهواءه فيهم، من أرقاها إلى أحطِّها!. يتودّد إليهم أو يخضع لهم، مرغمًا أو خدعةً، ليحقِّق ضالته فيهم أو ليأمن شرّهم!. في قرارة نفسه، لا يهمّه أمرهم، أو يحتقرهم أو يلغيهم!.

   أمّا الحرّ، داخليًّا، فيقمع أهواءه، ويستعبد نفسه، بالحبِّ، لحبيبه!. قِبلتُه الامتداد صوب ربّه وخَلْقِ الله، بصدق وأمانة، في فعل محبّة في الحقّ!. “وجهك، يا ربّ، أنا ألتمس”. الوجه هو الذّات، هو الكيان، هو ما فيه يتجلّى لنا. بالتّحرّر من ربقة الأهواء يصير قادرًا على إقامة علاقة حرّة بربّه، أي يصير قادرًا على الاستجابة لمحبّة الله بمحبّة!. الله هو المبادِر، في كلّ حال، ونحن نستجيب!. بالاستجابة تتكرّس حرّيّة الإنسان!. بالحقّ، أي بالكلمة الّتي نسلك فيها، نتحرّر؛ ثمّ متى تحرّرنا، أو قل تعاطينا التّحرّر المطّرد، قدرنا أن نسلك في الحقّ، أي في المحبّة!.

   للحرّيّة الدّاخليّة عالم خاصّ وموقف خاصّ يُسبَغان على صاحبها، بالنّعمة، من فوق. لا تحتاج الحرّيّة الدّاخليّة إلى حرّيّات عامّة، كالحرّيّة السّياسيّة وحرّيّة التّعبير، لتنمو!. لا قيمة روحيّة للحرّيّات العامّة بإزاء الحرّيّة الدّاخليّة!. يمكن أن يكون المرء مقموعًا بالكامل من جهّة حرّيّة التّعبير. هذا لا يؤثّر، بالمرّة، في حرّيّته الدّاخليّة!. وإذا ما سعى القامعون إلى إجبار الحرّ داخليًّا على القول بما لا ينسجم وحرّيّته الدّاخليّة فإنّهم لا يقدرون!. حتّى لو لجأوا إلى كلّ أنواع الإرهاب لكسر تصميم الحرّ داخليًّا، ما دام متمسّكًا بالأمانة، فإنّهم لا يستطيعون، لأنّ الحرّيّة الدّاخليّة تمدّ صاحبها بقوّة إلهيّة خارقة تفوق، بصلابتها، كلّ قوّة بشريّة أو شيطانيّة!.

   كذلك الأمر، بالنّسبة للحرّيّة السّياسيّة، هذه لا تزيد من الحرّيّة الدّاخليّة، طالما بقيت متماسكة، ولا تنقص منها، فهذان، الحرّيّة الدّاخليّة والحرّيّة السّياسيّة، ينتميان إلى فلكَين مختلفَين تمامًا، الواحد عن الثّاني!.

   والحرّ داخليًّا لا يستطيع أن يبغض قامعيه أو مضطهِديه، لأنّ هوى البغض، أو العنف، مضبوطان لديه!. يبقى محبًّا لأعدائه أنّى كان لون العداوة الواقعة عليه!. وحده الحرّ داخليًّا يتعاطى، تلقائيًّا، القول الإلهيّ: أحبّوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، صلّوا لأجل الّذين يسيئون إليكم ويطردونكم!.

   الحرّ داخليًّا هو الإنسان الجديد. وبما أنّ خدمة الكلمة هي خدمة الإنسان ليصير جديدًا، بالمعنى الإلهيّ، الرّوحيّ، المحبّي، للكلمة، فإنّ خادم الكلمة يُفترض به أن يكون هو نفسه جديدًا!. العتاقة لا تأتي بجديد. ولا يحرّر العبد عبدًا!. إن كان أعمى يقود أعمى فإنّهما يسقطان معًا في حفرة!. ألعلّ عطِشًا تكفيه صورة المياه ليرتوي، أو أحدًا حسبُه شمعة غير مضاءة ليبصر الطّريق، أو سامعًا يكتفي بالكلام عن الخبز ليشبع!.

   خادم الكلمة يكون مستعدًا لأن يضحّي بكلّ شيء ولا يضحّي لا بحرّيّته الدّاخليّة ولا بالحرّيّة الدّاخليّة لشعب الله، الّتي هو مؤتمن على إمامتها!. لا أثمن من الحرّيّة الدّاخليّة!. الكنيسة، تحديدًا، أمّة أحرار بالرّوح والحقّ!. لا همّ أيّة امتيازات نخسرها، هنا، المهمّ ألاّ نخسر حرّيّتنا الدّاخليّة!. الحرّيّة الدّاخليّة أثمن من حياتنا على الأرض، لأنّها هي حياتنا الجديدة الأبديّة!. لا معنى لموت كلّ الّذين استُشهدوا عندنا، وما كنّا لنكرمهم، لو لم تكن حرّيّتهم الدّاخليّة هي مبتغاهم وكانوا هم قدوة لنا!. القدّيس عبدا الفارسيّ دخل معبد الأوثان، وقلَبَ النّار المسمّاة مقدّسة أرضًا فأحرق الهيكل، في زمن يزدجرد الأوّل، ملك الفرس، عام 412 للميلاد!. ولمّا أمر الملك عبدا ورفاقه بأن يعيدوا بناء مذبح النّار الّذي حطّموه، وإلاّ فإنّه سوف يهدم لهم كنائسهم، قال؛ امتنعوا غير مبالين بالتّبعات!. فسلّمهم إلى المعذِّبين ثمّ فتك بهم!. ما قيمة الكنائس الحجريّة بإزاء الكنيسة الرّوحيّة؟!. كلّ الكنائس الحجريّة في الأرض لا تعادل، في قَدْرِها، ملكوت السّموات في داخل إنسان واحد منسيّ في أقصى الأرض!. وما قيمة الحياة الدّنيا بإزاء الحياة الأبديّة؟!. وما قيمة امتيازات هذا العمر قياسًا بالنّعمة الإلهيّة؟!.

   طبعًا، أمر، كهذا، لا يُصْطنع!. إذ يدخل شعب الله في حال الوهن الدّاخليّ والعبوديّة الدّاخليّة فأيّ نفع يجني إذا ما أشاد من الكنائس أفخمها؟!. هذه كاتدرائيّات أوروبا تستحيل متاحف، وبعض كنائسها مطاعم ومراقص!. بمَ نتعلّل؟!. بكوننا ضعفاء؟!. في غير زمن؟!. أصحاب ذهنيّة مختلفة؟!. أهذا يبرِّر موات شعبنا؟!. ليست هناك ربع مسيحيّة ولا نصف مسيحيّة؟!. في المسيحيّة كلّيّة، ولو كان ثمّة قصور في الفعل!. كلّيّة في النّيّة، في الإرادة، في العزم، في التّصميم!. ساعتذاك، ضعفاء؟!. لا ما يُضير، لأنّ النّعمة تكمّل النّاقصين؟!. أما صرخ الرّسول بولس: “أستطيع كلّ شيء في المسيح الّذي يقوّيني”؟!. روح الضّعف لا يبرِّر أحدًا!. ليس التّعلّل بعلل الخطايا السّبيل!.

   مَن يعلّمنا كيف ننهض من جديد؟!. كيف نصدِّق أنّ الله حيّ إن لم يكن حيًّا في أحدٍ أمامنا؟!. كيف نتشدَّد إذا لم يكن عندنا مَن يستمدد شدّته من الإله الشّداي ليشدِّدنا؟!.

   لا أخطر اليوم من الرّضوخ لواقع اللاّمبالاة والتّراخي والدّهريّة والموات!. إذا لم ينهض النّائم فكيف يضيء له المسيح؟!. لن تكون أمورنا كما يرام طالما نحن مستعبَدون لأهوائنا وللأركان الواهية لهذا الدّهر!. الحاجة هي إلى أن ينتفض كلّ منّا على نفسه، وبالأخصّ خدّام الكلمة على ذواتهم، ليعود بطرس إلى رعاية أغنام المسيح حتّى يُحيا الحبُّ من جديد وتعود النّضارة إلى الحقول الجافّة حتّى اليباس!.

الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي
دوما – لبنان
12 تموز 2015

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share