تاريخ الكنيسة ليس تاريخ قدّيسين وحسب. فالكنيسة فيها القدّيسون، وفيها الخطأة، لذلك تاريخها ليس تاريخ قدّيسين وحسب. والتاريخ يرينا أنّ الكثير من الممارسات المنافية والمناقضة لرسالة السيّد المسيح ارتُكبت باسم الكنيسة، فيما قدّمت الكنيسة، في الوقت عينه، العديد من القدّيسين الذين شهدوا لرسالة المسيح الحقّ.
أدركت الكنيسة، منذ نشأتها، أنّها “جماعة” يسوع المسيح، وأنّها ذات طبيعتين إلهيّة وإنسانيّة. فالقدّيس بولس الرسول يصفها بجسد المسيح الذي هو رأسها ومخلّصها: “كما أنّ المسيح رأس الكنيسة التي هي جسده وهو مخلّصها” (أفسس 5، 23). هذا القول يأتي بعد أن يعرض بولس الرسول للمواهب التي يعطيها الله لأعضاء الجسد الواحد لتفعيلها وتحقيقها في الواقع المعيش، وذلك على سبيل الرجاء: “لأجل تكميل القدّيسين لعمل الخدمة، لبنيان جسد المسيح، إلى أن ننتهي جميعنا إلى وحدانيّة الإيمان ومعرفة ابن الله، إلى إنسان كامل، إلى قياس قامة ملء المسيح” (أفسس 4، 12-13).
الانتماء إلى جسد المسيح لا يعني بالضرورة بلوغ المنتمي إلى القداسة، بل هو دعوة إلى الجهاد في سبيل الوصول إلى الكمال، إلى القداسة، إلى ملء قامة المسيح. ليس الانتماء الكنسيّ انتماءً سحريًّا يهب كلّ مَن يكتسبه بالمعموديّة صكّ البراءة والقداسة، بل هو دعوة إلى العيش بمقتضى تعاليم المسيح وحياته.
قلنا إنّ الكنيسة ذات طبيعتين: إلهيّة لأنّ المسيح رأسها ولأنّ الروح القدس يقودها إلى الحقّ، وبشريّة لأنّها مكوّنة من بشر تتفاوت التزاماتهم الإيمانيّة بعضهم عن بعض. الكنيسة ببعدها الإلهيّ هي معصومة عن الخطأ، غير أنّ التاريخ يرينا أنّها في بعدها البشريّ انحرفت أحيانًا عن ثوابت الإنجيل. طبعًا الكنيسة أعادت قراءة تاريخها وأزالت هذه الانحرافات، وبخاصّة حين رفضت قبول تعاليم المجامع الهرطوقيّة وممارسات بعض الأباطرة المخالفة للوداعة المسيحيّة، وتأثيرها على الإيمان المستقيم.
نحن مدعوّون إلى قراءة تاريخ الكنيسة بعينين نقديّتين، لا بعينين انتقائيّتين. فكما أنّه من الخطأ ألاّ نرى سوى الأخطاء في مسيرة الكنيسة التاريخيّة، فإنّه لا يقلّ خطأ عن الأوّل عدم رؤية سوى تاريخ القداسة. فنحن نقرأ سير القدّيسين لنتّخذهم قدوة ومثالاً وأسوة حسنة كي نبلغ إلى ما بلغوا إليه بعد جهادهم المبارك. ونقرأ ما تبقّى من خبرات البشر الذين قادوا الكنيسة في تاريخها الدينيّ والسياسيّ والاجتماعيّ كي نتحاشى ما وقعوا فيه من انحرافات شوّهت التعاليم المسيحيّة الحقّ.
العين الانتقائيّة في قراءة التاريخ هي عين عمياء، لأنّها تتغاضى عن رؤية الحقيقة الكاملة وتتغافل عنها. هي عين تبرّر للخطأة الذين سبقوهم أخطاءهم عوض أن تنتقدهم في سبيل أداء أفضل للمؤمنين بالمسيح المخلّص. هي عين تصنع واقعًا وهميًّا تأسر نفسها فيه، فتصبح خارج التاريخ الحقيقيّ للقدّيسين الذي عاشوا واقعهم غير الوهميّ فترقّوا بواسطة التوبة إلى القداسة وإلى الحياة الدائمة مع المسيح.
المسيح وحده هو المنزّه عن الخطيئة، أمّا تنزيه الجماعة وتاريخها فهو الباب إلى التعصّب الأعمى والانغلاق والتقوقع بكلّ أنواعه.
الأب جورج مسّوح
موقع ليبانون فايلز، 15 تموز 2015