المؤسّسة القاتلة : نعمة محبّة الفقر!.(١٠) – الأرشمندريت توما (بيطار)
الخادم الصّالح للكلمة، كما أسلفنا، هو مَن اقتنى الحرّيّة الدّاخليّة (راجع المقالة رقم 9 في السّلسلة عينها). والحرّيّة الدّاخليّة لا يذوقها إلاّ مَن طلب الفقر وأحبّه!. إذا كان قد قيل، بتوكيد، عن محبّة المال، إنّها أصل لكلّ الشّرور (1 تيم 6: 10)، فلا شكّ، بالقياس عينه، أنّ محبّة الفقر أصل لكلّ الفضائل!. لذا نبحث عمّن اقتنى محبّة الفقر، أو، بعبارة أدقّ، عمّن أُعطي نعمة محبّة الفقر، من فوق، أوّلاً، لأنّه طلبها بإلحاح!. هذا نجعله خادمًا للكلمة بيننا!. هذا هو رجل الله الرّسوليّ المحتد!. كلّ ما عدا ذلك، ممّا يكتسبه، في دنياه، أو يُعطى له من فوق، بعد ذلك، يحلّ، في الخدمة، في المحلّ الموافق، الصّالح للبنيان!. من غير محبّة الفقر، لا مطرح لله، ولا حضور، لا في خادم الكلمة، ولا في خدمته!.
وحده الفقير إلى الله يعرف الله!. ووحده مَن يعرف الله معرفة كيانيّة، لا مجرّد معرفة إدراكيّة استنتاجيّة نظريّة، يتّكل على الله!. ثمّ وحده مَن يعرف الله، في كيانه، يدخل وإيّاه في عِشرة حقّ!. ووحده مَن يدخل في عِشرة حقّ وربّه يعرف أن يحبّه بمحبّته!. أخيرًا وليس آخرًا، وحده مَن انسكبت فيه محبّة الله يقدر أن يحدِّث عنه!. بكلام آخر، يقدر أن يكون خادمًا حقّانيًّا للكلمة، يرعى خراف المسيح، أيضًا وأيضًا، كيانيًّا، لا كلاميًّا، ظواهريًّا، على محبّة الله، بالرّوح والحقّ!.
محبّة الفقر كنز، يدّخره الله ويهبه، لا فقط للّذين يطلبونه، بل، بالأحرى، للّذين يحبّهم!. لِمَن قال الآب: هذا هو ابني الحبيب الّذي به سُررت، إلاّ للّذي أفرغ ذاته وأخذ صورة عبد، وجال في الأرض، لا مكان له يسند إليه رأسه؟!.
لا شيء، في العمق، واقعيًّا، للإنسان، أكثر من الفقر!. مخلوق فقير، هو، برأه ربّه من العدم!. وما الموت سوى التّعبير عن فقر الإنسان، وتاليًا، مدًى لمحبّةِ الله!. ولكن، لا فقط لأنّه من العدم، خرج إلى الوجود فقيرًا، معتمِدًا بالكامل، في كلّ ما له، على الله، بل لأنّه مولودُ حبّ، أوّلاً، خلقه ربّه على صورته ومثاله، أي أتى من حبّ ويسير إلى حبّ، وفي الحبّ تلقاه، بالوضع، مقيمًا!. الحبّ، تحديدًا، يتضمّن الفقر!. الفقر مداه!. الحبيب فقير إلى حبيبه، لذا لا محبّة إلاّ بالامتداد “الفقير” للكيان إلى الكيان!. لا فقط، في الحقيقة، نحن فقراء إلى الله، الله، أيضًا، فقير إلينا!. لذا منه نتعلّم الفقر الكيانيّ أي أن نحبّه!. تعلّموا منّي!. بالله، وفيه، وله نوجد!. به – بالكلمة – كان كلّ شيء، وبغيره لم يكن شيء ممّا كُوِّن!. أنا أحب، إذًا أنا موجود!. وجود بلا حبّ وجود عدميّ، يتّسم فيه الكائن باللاّوجود في الوجود!.
خدمة الكلمة بلا فقر تطفّل!. والتّطفّل على الله نار آكلة!. الكنيسة جماعة فقراء، مساكين!. لمَن أُعطيت الطّوبى؟ أليس للفقراء؟ طوبى للمساكين، وللمساكين بالرّوح، – الأمر سيّان – لأنّ لهم ملكوت السّموات!. الأغنياء، أيسر للجمل أن يدخل من ثقب الإبرة، من أن يدخلوا ملكوت السّموات!. ولكن أيّ أغنياء؟ ألعلّ الله يهمّه المال؟!. فقط، لأنّ ذوي الأموال مجرَّبون، بقسوة، بالاستغناء عن الله، يوجد المال عثرة لدى الكثرة!. لِمَ يمكن المال أن يكون لعنة؟ لأنّه يغوي بالاكتفاء بالذّات، وما لنا، من دون الله!. لكن ثمّة أغنياء، قلّة، يحبّون الله!. هؤلاء، في قرارة أنفسهم، فقراء ويُغنون كثيرين!. بمال ومن دون مال، في كلّ حال، النّاس أغنياء ويمجِّدون الله إذا ما أودعوا أنفسهم وكلّ حياتهم المسيح الإله!.
الباحثون عن الغنى، في هذا الدّهر، فقراء مهما حصّلوا لأن لا شيء يكفيهم. أمّا الفقراء في الرّوح، فمهما كان مقدار شحّهم، فأغنياء، لأنّهم مكتفون بما عندهم، شاكرين، فرحين!. استضاف ناسكٌ غريبًا، مرّة، في منسك فقير، لا شيء فيه يُشتهى!. وفي ليلة عاصفة باردة، أتاه مستفقِدًا!. فقبل أن يطرق بابه سمعه يناجي ربّه متهلِّلاً: كم من النّاس، الآن، اللّهمّ، يقيمون في قصورهم تضنيهم الهموم، وهم ذابلون من الأسى، وأنا مقيم، ههنا، مرتاح البال، لا شيء يكدّرني، وتدفئني رحمتك؟!. ما أعظمك ربّي!. الشّكر لك والحمد!. كم من النّاس، الآن، يقفون أمام القضاة، ويملأهم الخوف من الحكم، وأنا جالس واثقًا، في سلام، أرفع ابتهالي إليك؟!. عفوك ربّاه!. لا تحرمنا من ضياء وجهك!. كم من النّاس، الآن، مُلقون في السّجون، وأيديهم وأرجلهم في الأصفاد، وأنا مرتاح، أمدّ رجليّ وأرفع يديّ إليك!. لك الشّكران والتّسبيح، ربّاه!. ولمّا قال هذا، أضاء القلاّية الحقيرة نورٌ سماويّ، فصار النّاسك الفقير في الغبطة!.
عن أيّ نهضة نبحث؟ أيّ خدمة كلمة نريد؟ ليس غير الفقير إلى ربّه يهمّه أمر الفقراء ومن ثمّ الكنيسة؛ وليس غير مَن وجد، أو، بالأحرى، وجده الرّاعي الصّالح، يبحث عن الخراف الضّالة، في الوعر، حفظًا للأمانة، وإلاّ يأكل لحمها ويستدفئ بصوفها، باسم ربّها!.
نريد أن نرى يسوع!. تعالَ وانظر!. الوجه الّذي لا يرتسم عليه وجه السّيّد لا يصلح للخدمة!.
أعطني مَن لا يطلب لنفسه شيئًا، أن يريح لا أن يرتاح، أن يُغني لا أن يغتني، أن يتوارى لا أن يستبين، أن يمجِّد لا أن يتمجَّد، أُعطِك إيقونة الكنيسة العروس، بالرّوح والحقّ!. ولك من إيقونات الخِدْر، في صدور خدّامٍ ارتحلوا ما يكفيك لتُحيي روح سابقيك!.
يوحنّا الصّوّام (595م/ 2 أيلول) فقير أُسندت إليه خدمة الفقراء. كان نهمًا في فقره ومحبّته للفقراء!. من كثرة ما أنفق، قيل، استدان من الأمبراطور!. فلمّا مات، أراد الأمبراطور أن يستردّ ما له عليه من ديون، فلمّا كشفوا على قلاّيته لم يجدوا فيها سوى ملعقة خشب وقميص من كتّان وجبّة عتيقة. لم يخلِّف وراءه نجاحات وفق معايير هذا الدّهر!. المهمّ أنّه كان خميرة حيّة!. عاش فقيرًا وللفقراء ومات فقيرًا، أمّا ما أثمره فقره من غنى في الكنيسة فهذا ثابت، على مدى الأجيال، ولكنْ، كان لله وحده توظيفه!. لا يُرى نجاح القدّيس في حياته بل فشلُه!. الله، بعامّة، يكشف نجاحه بعد موته!. هذه هي النّهضة الحقّ!.
في أيّامنا، لنبقى في حدود مَن رقدوا، حتّى لا نسيء إلى بعض الباقين، بعدُ، على قيد الحياة؛ دونك بولس بندلي الّذي مات لا قرش في جيبه، وبقيت مطرانيّته خربة كما دخلها، وأورث خلفه ديونًا!. وحدهم فقراء المسيح ووحدها خدمة كلمة المسيح لهم ولكلّ أحد، كانت الإرث الّذي تركه وراءه!. لاهثًا عَرِقًا معفَّر الجبين، رحّالاً من مكان إلى مكان، من وجه إلى وجه، من دار إلى دار، من مداواة جرح إلى مداواة جرح!. تثقّل بآلام النّاس وما ثقّل على أحد!. فقير في خدمة الفقراء!. مات كأنّه فاشل لأنّه ظُنّ أنّه لم يُتقِن أصول الإدارة(!) لكنّه أنفذ روح الله في قلوب كثيرة!. هذه هي النّهضة الحقّ!.
لا نحتاج لأن نذهب إلى أبعد من ذواتنا لنساهم في إحياء الموات في الكنيسة!. مَن يبحثون عن القيامة في إعلاء صرح المؤسّسات وإحداث التّنظيمات وتكديس محصّلي الشّهادات والغرق في بحر الدّراسات والمؤتمرات، لا يبحثون، بالأكثر، من حيث يدرون أو لا يدرون، عن أكثر من أمجادهم الباطلة… باسم الله!. فقراء المسيح جوعى إلى الكلمة/الخبز، والخبز عند ربّك، بعدما تجسّد، جسدُه، لتصير أنت امتدادَه!. فمَن لا يكسر جسده تَعَبًا وبذلاً وروحًا لتأكل الخراف القابعة في وادي ظلال الجهل والنّسيان، فما المنفعة؟!. الكلام الطّنّان بلا روح ما جدواه، والّذين يظنّون أنّه بالتّنظيم وحسن الإدارة تستقيم قناة الكنيسة، فرغت جعبتهم من الحسّ الدّاخليّ، وهم يبحثون عن الظّلّ ويتركون الفريسة!.
نحن، اليوم، على المحك!. الزّمن زمن غربلة!. ربّك يلقينا في مناخ الغربة والصّحراء والفقر علّنا نتعلّم، أخيرًا، أنّ الخلاص بالإنسان باطل!. ليس إلاّه نتّكئ على صدره!. روح ربّك أو لا شيء!. نحن، أخيرًا، بإزاء الحقيقة العارية الّتي لا إمكان خلطة لها بشيء واعد غيره في هذا الدّهر!. مناخنا فقر مدقع!. النّاس في أسى، في واد آخر غير هواجسنا!. والقولة الباقية أن أعطِ دمًا وخذ روحًا!. حبّة الحنطة تموت، أوّلاً، في الأرض، بعد ذلك تثمر بنعمة ربّك!.
الصّليب أتى بالقيامة، والفقر يأتي بالغنى الحقّ!. كلّ ما عدا ذلك ساقط!. هذه هي الكلمة الباقية لنقوم بخدمتها، وإلاّ الخدمة زيف!.
الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي
دوما – لبنان
19 تموز 2015