بين عطايا الله وطلبات البشر – المطران باسيليوس (منصور)
الإخوة والأبناء الأحباء
في كل ديانات العالم، السماويّة منها وغير السماويّة، تتنوع الصلوات بين شكر ومديح وطلب وتسبيح. ويختلف مستوى الصلوات بحسب مؤديها. أي بحسب حاجته الماديّة، وكذلك بحسب حاجته الروحية، ولا يمكن أن يؤدي الصلاة شخصان مختلفان بنفس المستوى إلا إذا كانا على نفس المستوى الروحي. فقوة الصلاة تعتمد على المستوى الروحي للشخص، فإذا كان إنساناً مادياً سيسرّ بالماديات، وإذا كان قد ترقى في الحياة الروحية ستكون قوّة صلاته بحسب الحالة الروحية التي هو فيها.
نعم الناس الماديون والغارقون في هذا العالم وتفاصيله يكمنون عند زواياه ولا يمكن أن تكون طلباتهم روحية سامية على الماديات. في الصلاة أهل العالم يطلبون ما يدبرون به حياتهم. الطالب الفهم، والوالدة التوفيق لأولادها. والرجل النجاح في عمله، وهكذا كلُّ واحد يهتم في صلاته بما يتوافق مع اهتماماته وهمه.
لقد علمنا ربنا يسوع المسيح أن نطلب أولاً ملكوت الله وبرَّه “اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه وهذا يعطى لكم ويزاد” “يكفي لكلِّ يومٍ شرُّه”.
عندما رأى الإنسان المخلَّع المطروح على السرير قال له مغفورة لك خطاياك ولكن الجموع احتجوا على هذه الهبة لأنهم ما جاؤوا ليطلبوا مغفرة الخطايا بل جاؤوا ليطلبوا شفاء الجسد وجرى حديث وأحداث في هذه العجيبة، تؤكد أن من يستطيع أن يغفر الخطايا يستطيع أن يشفي الجسد. وليس من له أن يشفي الجسد، يستطيع أن يغفر الخطايا.
هكذا الآباء القديسون يعلموننا أن نسأل الله دائماً أن تكون مشيئته في حياتنا. صلى السيد له المجد أن تعبر عنه كأس الموت، وفي النهاية صلى إلى الآب وقال له “لتكن مشيئتك لا مشيئتي” ولولا هذا الاستعداد الكبير من قبل السيد المتجسّد، لخلاص البشر لما حدث الخلاص الكوني ولبقيت السموات مغلقة في وجه البشر، وكان بالإمكان أن يعيش هو بضع سنين كبقية البشر ويموت. ولكن بكل تأكيد استطاع أن يجابه الموت بملى حريته لأنه ابن الله المساوي للآب في الجوهر.
أراد الخير الأكبر للبشر والخليقة، ولم يتلهى بما هو أقل. لقد جرّبه الشيطان وأراد أن يحرفه عن المهمّة التي جاء بها غير عارف أنه هو الله، بل اكتفى بمناداته بتعابير التفخيم التي تعبّر عن حقيقة أدركها وعن قوّة لمسها في الواقف أمامه ويحاربه. لقد وعده بسلطان العالم. وجرّبه في علاقته مع الله. وكذلك جرّبه في حاجاته البشريّة الملحّة (الجوع) ولكن السيّد صرفه خائباً وفي طاعة كاملة لله.
يوصينا آباؤنا القديسون أن نسأل الله ما هو لخلاص النفس والارتقاء بإنسانيتنا في سبل الخير جميعها وخاصّة في الجهاد لامتلاك الروح القدس.
وقد نبهنا ربنا يسوع المسيح أن التلهي بما للعالم يفقدنا ذاتنا “ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر ذاته” “اعملوا لا للطعام الفاني بل للطعام الباقي لحياة أبديّة الذي يعطيكموه ابن البشر”.
كثيراً ما أرسل الله للقديسين مواهب النبؤة وصنع العجائب وشفاء المرضى. وأما الآباء فكانوا يصلون إلى الله أن يرفعها عنهم وذلك خوفاً من الوقوع في التجارب والمجد الباطل والكبرياء.
الفرق بين من يطلب عن معرفة وداله أمام الله، وبين من يطلب وهو واقف أمام ذاته كالفرق بين الطفل الذي يطلب من والده بعض النقود المعدنيّة ويرفض الورقية الكبيرة، وبين الرجل الذي لا يكترث للنقود الصغيرة ويطلب ما هو أكبر قيمة لأنه يحتاج لمصروف شهري وشراء البيت. والسيارة وغير ذلك. فالطفل يكتفي بالقليل لأنه لا يدرك فوق حاجته، ويمكن أن يرمي ما يزيد على ذلك.
لازال الناس يتذكرون آباءهم وأجدادهم كيف يتضرعون إلى الله ليس لأجل حاجاتهم الشخصيّة بل ولأجل حاجات الآخرين. يدل هذا على عمق المشاركة العملية واتساع المحبّة في صدور المتضرعين إلى الله. بالحقيقة علّمنا السيّد أن نسأل حاجاتنا من الله وهو سيعطيها. “اطلبوا تجدوا، اسألوا تعطوا، اقرعوا يفتح لكم،”، ولكن يؤكد لنا أنه يجب علينا أن لا نبقى عند مستوى الحياة الماديّة بل نسمو على ذلك. ويتحقق هذا بقدر استمراريّة العلاقة مع الله.
أراد أن يرفع فكر اليهود إلى مستوى الحياة السماويّة (الملكوتية) عندما سألوه عن مصير المرأة التي تزوجها سبعة إخوة، يوم القيامة. فقال لهم: “يكونون كملائكة السماوات لايزوجون ولا يتزوجون”.
عندما يبدأ الإنسان حياته الروحيّة يطلب من الله أن يخلّصه من شهوات العالم ومحبة المال والتعلق بالمجد الباطل والارتباط بالأهل. ثم يرتقي فيركز على خطاياه الكبيرة ويأخذ في محاربة وقلع أصولها وجذورها فيتحرّر وعن ذلك يرتقي بتفكيره. لهذا وبخ أحد الآباء أشخاصاً كانوا يتكلمون في الروحانيات وركزوا على الخطيئة ومغفرة الخطايا، فقال لهم لو كانت لكم النعمة لتكلمتم عن النعمة مع ما تتكلمون عنه. بالفعل عند الآباء المتقدمين روحياً يختلف فحوى الصلاة وفحوى الأحاديث الروحيّة التي يتداولونها بين بعضهم ولهذا لا يسمحون للمبتدئين من الرهبان أن يشاركوهم الحديث لأنه سيكون أكبر من فهمهم واستيعاب أذهانهم. وقد يوقعهم السماع هذا في جهاد لا تتحمله قيواهم.
إذاً أيها الإخوة والأبناء الأحباء، لا تكتفوا في صلواتكم أن تطلبوا بعض الطلبات السريعة الماديّة الوقتية. بل اطلبوا أيضاً في الشؤون الروحيّة لينعمها الله عليكم أيضاً وستجدون أن أموركم الماديّة تصبح أفضل وشؤونكم الحياتيّة تصبح أكثر استقامةً وانسجاماً. وستزول الخلافات من بينكم. فالطلبة من الله تعبّر عن الواقع الروحي لسائلها وعن علاقته مع الله.
وأهم شيء لا تسألوا الله شرّاً لأحد ولا تجلبوا اللعنات حتى على من لا يستحقون البركات. فقد أوصانا: “باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى المسيئين إليكم، أحبوا مبغضيكم” فمن نال مواهب الروح القدس لن يفكر إلا بما يليق بحضور الروح في حياته ولن يتلهى بما هو أقل مما يخص أبناء الكهنوت الملوكي.
نشرة البشارة
19 تموز 2015