المؤسّسة القاتلة : المؤسّسة، متى ولماذا وكيف تقتل؟ (١١) – الأرشمندريت توما (بيطار)
كثيرون يظنّون أنّ أعظم هموم الكنيسة مردّها سوء التّنظيم والإدارة، وكون المقامين عليها غير متعلِّمين أو متخصِّصين، بالقدر الكافي، وتنقصهم الثّقافة الأكاديميّة، وهم غير دربين في شؤون العلاقات العامّة، والمراس الفكريّ والقدرة التّعبيريّة. هذا، لأنّ هاجس المقاربة المؤسّساتيّة للكنيسة طاغٍ في الوجدان العامّ لناسها. لذا، الهمّ، بالأحرى، مركّز، لديهم، لا في روح الكنيسة وبنيان النّفوس، بل في الاعتبارات الإنسانويّة والاجتماعيّة والفكر الدّماغيّ – علم، منطق، تحليل، تركيب… –، وكذا في الأنشطة الجسدانفسانيّة، والمهارات، والقابليّات العلائقيّة، وما يمتّ إليها بصلة، من قريب أو بعيد. التّصوّر بينهم هو أنّ الكنيسة الحيّة هي المؤسّسة الكفء. وبما أنّ المؤسّسة الكنسيّة، في الوقت الحاضر، رخْصَة الإدارة والتّنظيم، وتعاني العشوائيّة وفوضى الممارسة والمزاجيّة والأهوائيّة، وتحكمها الفردانيّة الاستنسابيّة، لذلك الكنيسة، ككنيسة، تكتنفها حال محبِطة من الضّياع. من هنا وضعها الصّعب المعثِر المتعثِّر المعقَّد!.
هذا ما يراود أذهان الكثرة من النّاس، إذا ما وُجدوا معنيِّين بالأمر، لأنّ ثمّة مَن لا يعنيهم بالمرّة. ولكنْ، لا مقاربة الموضوع، على هذا النّحو، ولا الاستنتاج بشأنه، صحيحان!. في زمن الدّهريّات تُغيَّب الرّوحيّات وتُقدَّم النّفسانيّات!.
ليست المشكلة، كنسيًّا، مشكلة مؤسّسة. المشكلة هي مشكلة اعتبار الكنيسة مؤسّسة وتعاطيها كأنّها مؤسّسة!.
للكنيسة وجه مؤسَّساتيّ، بكلّ تأكيد، لكنّها ليست مؤسّسة، أبدًا، لا إلهيّة، ولا إلهيّة بشريّة، ولا حتّى بشريّة!. كلّ قول فيها بأنّها مؤسّسة غير مُحِقّ!. ثمّة فرق كبير بين القول بالكنيسة كمؤسّسة، والقول بها كذاتِ وجهٍ مؤسّساتيّ. طبيعيّ أن تكون ذات وجه مؤسّساتيّ لأنّ الكنيسة، إلى كونها إلهيّة الطّابع، بشريَّةٌ أيضًا. أمّا القول بها كمؤسّسة فساقط، لأنّ المؤسّسة، لطبيعتها، لا يمكنها إلاّ أن تَقْصر الكنيسة على ما هو بشريّ بحت!. لذا المؤسّسة، أنّى كانت، لا تصنع الكنيسة!. الرّوح، روح الرّبّ، هو الّذي يصنعها، ولكنْ، طبعًا، لا على نحو مجرّد، بل في ما هو بشريّ، باعتبار الطّبيعة التّجسديّة للكنيسة!. هذا يستدعي تحديدًا واضحًا لمعنى المؤسّسة. نظنّ أنّنا نفهم ماهيّة المؤسّسة، فيما مضمونها، في الأذهان، ملتبِس!.
المؤسّسة إطار بشريّ بحت، تستحدثه جماعة ذات مقاصد واحدة مشتركة، ابتغاء تنظيم آليّةٍ ناجعة ما لأداء خدمة تخصّها، لذا تجعل لها أحكامًا تضبطها وتيسِّر تحقيقها!. هنا، عندك مشكلة، إذ تحسب أنّ التّنظيم الحسَن يضمن توفير الخدمة!. لكن “السّيارة”، بمعنى، لا تصنع الرّحلة، فقط تيسِّرها!. المسافر وحده يصنع الرّحلة، وفي حالنا، إلى وجه ربّه، طالما ربُّه قِبلتُه!. كلّما كانت صورة العبور إلى أورشليم العلويّة، في الوجدان، واضحة، وكلّما كان هاجس القيام بالرّحلة مالئًا على العابر قلبَه، كلّما كانت المركبة الّتي يعدّها للسّفر على أنسب ما تكون، على قدر طاقته!. لذا، موضوع تنظيم المؤسّسة مرتبط، عضويًّا، بالهدف منها والأمانة لهذا الهدف والغيرة على تحقيقه!. تنظيم المؤسّسة ليس غرضًا في ذاته، بل نتيجة الغرض الّذي من أجله تُنشَأ!. التّنظيم للتّنظيم، والمؤسّسة للمؤسّسة، مؤشِّر عقم وعبث وضياع وفراغ، ويقتل الرّوح، إذا ما وُجدت، وحيثما وُجدت، لأنّه ليس منها ولا ينتمي إليها ولا يثمّنها!. إلامَ تنتمي المؤسّسة الكنسيّة، والحال هذه، إذًا؟ تنتمي إلى الإنسان لا إلى ابن الإنسان، إلى البشر لا إلى الإله المتجسِّد!. وما تُراها تخدم؟ تخدم أهواء الإنسان وفكره ولا تخدم مقاصد الله وفكره!. وأيّ عبادة تكرِّس؟ عبادة الإنسان لنفسه، لا عبادة الله في ذاته!. طبعًا، كلّ ذلك تتعاطاه المؤسّسة، قليلاً أو كثيرًا، باسم الله، وفي إطار الشّعارات الإلهيّة، ومناخ الطّقوس العباديّة!.
فقط، حين يسود روح الله في مَن يؤدّي الخدمة الكنسيّة تستقيم الخدمة، أو، بتعبيرٍ أدقّ، توجد؛ وحيثما انتفى روح الله في خدّام الكنيسة التوت خدمتهم وتشوَّهت، أو، بتعبيرٍ أدقّ، انتفت، مهما كان ظاهرها منتظِمًا برّاقًا!. الموضوع هو موضوع مَن يؤدّي الخدمة، وبأيّ روح يؤدّيها!. ليست هناك خدمة قائمة في ذاتها تؤدَّى آليًا أو عبر آليّة بشريّة متخصِّصة بحْت!. هناك خادمٌ ومخدومٌ إيقونيّان؛ فإذا ما خدم الخادم بروح الله وتلقّى المخدوم، بالرّوح عينه، عملَ محبّة الله، عبر الخادم، حصلت الخدمة الكنسيّة، كولادة، وإلاّ لا تكون هناك خدمة حقّانيّة بالمرّة، بل حَبَل كذوب!. روح المحبّة في المسيح، معنا وفيما بيننا، هو يصنع الخدمة أو لا تكون ثمّة خدمة إلهيّة بشريّة البتّة!. الخدمة، إذ ذاك، خدمة إسميّة، شكليّة، إيهاميّة، مزعومة!. دونك، مثلاً، توزيع الحصص الغذائيّة، في زمن العوز. هذه ليست خدمة محبّة ولا طابع روحيًّا لها، من ذاتها، لمجرّد أنّ موادَّ غذائيّة يجري توزيعها!. لماذا؟ لأنّه حيثما خفت القلب المحبّ وتمأسس عمل الخدمة، استبان الخادم مجرّد أجير/آلة، مغلوب على أمره، أو ربّما سيِّدٍ مستغلّ يُحسِن إلى العباد ولا يَخدمهم؛ وقد يكون عاملاً، حطّه السّيل من علوّ(!.)، مهذّبًا أو فظًّا، لا فرق، من حيث إنّه ليست ثمّة صلة كيانيّة أحشائيّة تصله بمَن يوزّع عليهم الأدام!. أقول هذا لأنّ التّهذيب ليس محبّة، بل مجرّد مسلك اجتماعيّ لا حسّ كيانيًّا فيه!. يكون المتلقّي في عين “المُلقي”، بمعنى، مجرّد وجه ويعبر!. وقد يستحيل، بيسرٍ، لديه، شيئًا، أو رقمًا، أو حالة، أو ملفًّا!. التّوزيع، إذ ذاك، يكون في خلفيّة مهينة، محقِّرة، لا إنسانيّة!. في هكذا مناخ، كثيرًا ما ينفسد المتلقّي ويتصرّف بروح المسكنة والكذب والجشع والطّمع والجحود!. كذلك كثيرًا ما تُقارَب الحصص الغذائيّة كمكاسب بغضّ النّظر عن الحاجة إليها، ويوجد، دائمًا، مَن يختلسها ويتاجر بها ويثرى بمردودها!. الخدمة، إذ ذاك، روحيًّا، تستبين عملاً للموت لا للحياة، للمنافع الذّاتيّة لا للحبّ، للاستغلال لا للخدمة الحقّ!. أما قيل: حيث تكون الجثّة هناك تجتمع النّسور؟!. لا أيسر، في مناخ اللاّحبّ، من أن يَتعاطى الإنسانُ الإنسانَ كجثّةٍ!. الخبز، ولو شاءه ربّك، أصلاً، للبرَكة، فإنّ جشع الإنسان كفيل بجعله أدامًا للمآثم والموبقات!. ليس بالخبز، وحده، يحيا الإنسان، بل بكلّ كلمة تخرج من فم الله!. خبز يعطيه الإنسان، بلا حبّ، مرّ ومغمَّس باللّعنة ولا يقيت بل يُسمِّم النّفس!. لا تستقيم عطيّة الخبز إلاّ إذا أُعطي بالبَرَكة وجرى تلقّيه بالشّكران، وإلاّ كيف يكون رمزًا ومركبةً للخبز السّماويّ، لجسد المسيح؟!. خبز بلا حبّ، حياة مائتة بلا مسيح!. يستحيل سمًّا روحيًّا، يقتل!. لا فقط، الأكل ذو علاقة بالمائدة السّماويّة، الأكل، أيضًا، ذو علاقة بعبادة الأصنام/الأهواء!. لا شيء، في الدّنيا، قويم، في ذاته، ولا شيء نجس في ذاته، نيّة القلب هي الّتي تشدّه في هذا الاتّجاه أو ذاك!. في كلّ حال، وحده الرّوح يحيي، أمّا الجسد، أي كلّ ما للإنسانِ، فلا ينفع شيئًا!.
الخدمة تفترض الشّركة بين المؤمنين، فإذا لم تكن هناك شركة حقّانيّة، في المسيح، بينهم، فإنّ الخدمة تستحيل استخدامًا، استغلالاً، استعبادًا، واجهةً لغايات أهوائيّة!. لا تعود، إذ ذاك، بإزاء خدمة محبّة في الحقّ، بل بإزاء مؤامرة اغتيال للنّفوس!. أما قيل: مَن ليس معي فهو عليّ، ومَن لا يجمع معي فهو يفرِّق؟!. من ذا كون المؤسّسة، في ذاتها، تقتل لأنّها تشيِّئ النّاس، على صورتها كآلة، وتستغلّهم وتستهلكهم!. “فإن كنتم تنهشون وتأكلون بعضكم بعضًا، فانظروا لئلاّ تُفنوا بعضُكم بعضًا” (غلاطية 5: 15)!.
وضعُ الأيدي لا يصنع خدّامًا في الكنيسة، فقط يكرِّسهم للخدمة إذا ما كانوا، بالرّوح، أهلاً لها، ويطلقهم، بمخافة الله، لبذل النّفس، من أجل إخوتهم، حتّى الشّهادة الكاملة لمسيح الرّبّ أنْ احملوا بعضكم أثقال بعض، وهكذا أتمّوا ناموس المسيح!. إذا كان قد قيل: “مَن ردّ خاطئًا عن ضلال طريقه، يخلِّص نفسًا من الموت، ويستر كثرة من الخطايا” (يعقوب 5: 20)، فالقول صحيح، أيضًا، أن مَن كُلِّف بنفس وأعرض عنها أو استغلّها أو نهشها أو سيّبها، ودَفن، في التّراب، وزنة النّعمة لخدمتها، فإنّه يُطالَب بدمها!. مخيف الوقوع بين يديّ الله الحيّ!.
هوذا الوقت آن لابتداء القضاء من بيت الله (1 بطرس)!. الكلمة هي تدين في اليوم الأخير!.
* الأسبوع الفائت اكتفيت، لأسباب خاصّة، لا علاقة لها بهذه السّلسلة من المقالات، بموضوع من أرشيف “نقاط على الحروف” حول المدرسة، كمؤسّسة ملتبسة، اعتبرته مهمًّا ومفيدًا في استكمال الصّورة بشأن المؤسّسة القاتلة في الكنيسة، والآن أعود إلى استكمال السّلسلة، فاقتضى التّنويه.
الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي
دوما – لبنان
2 أب 2015