المؤسّسة القاتلة شيطان المؤسّسة الأخرس (١٢) – الأرشمندريت توما (بيطار)

mjoa Monday August 10, 2015 111

المؤسّسة القاتلة شيطان المؤسّسة الأخرس (١٢) – الأرشمندريت توما (بيطار)

   إذا لم يكن روح الله هو الفاعل في الخدّام والمؤمنين، وإذا لم يكن مسيح الرّبّ حيًّا فيهم، وإذا لم تكن المحبّة في الحقّ راسخة لديهم، فلا فرق، في الحقيقة الدّاخليّة، بين المؤسّسة المظنّ أنّها “كنسيّة”، الّتي إليها يعتبرون أنفسهم منتمين، والمؤسّسات الدّنيويّة!. القوى الجوّانيّة الّتي تفعل في الواحدة تفعل في الأخرى!. فقط المظهر يختلف. لكن شيمتهما، في العمق، واحدة: التّمظهر!. ما هي عليه المؤسّسة، من عيوب، تخفيه، تمكيجه، وما ليست عليه، من فضائل، تدّعيه وتتباهى به!. لذا الرّوح الّذي يفعل فيها شيطان أخرس!.

interior-of-a-magnificent-orthodox   ليس من حقِّك، في وجدان أوساطنا، أن تتكلّم على مفسدة في كنيستك، مهما كانت موجعة ومؤذية للنّاس، لأنّ ثمّة، دائمًا، مَن يشير إليك بالبنان، ويقول لك: “انت تقصد فلانًا”!. إذًا، أنت تشهِّر بالآخرين، أنت تسيء إليهم، ولا حقّ لك في ما تفعل!. لذا، قيمة ما تقول تتدنّى، ومصداقيّتك تضعف!.

   تتكلّم على شيء فيُظنّ أنّك تتكلّم على أحد بخاصّة!. كلّ إنسان، في وجدان أكثر النّاس، يساوي صفاته وأفكاره وخطاياه. لذا، إذا تنكّرتَ لصفاته تنكّرتَ له، وإذا نبذتَ أفكاره نبذتَه، وإذا مججتَ خطاياه مججتَه. هذا أسوأ وأخطر ما يمكن أن يكون عليه موقفك من الآخرين!. المسيحيّة مستحيلة ما لم يميِّز الواحد ما بين الشّخص والحال الّتي هو عليها!. أنا لست خطاياي!. أنا خاطئ!. أنا لست مرضي!. أنا مريض!. إذًا، تساعدني لكي أُشفى، إذا كانت فيك محبّة المسيح!. تعينني لكي أتحرّر من خطيئتي!. ترحمني لأنّي بحاجة إلى رحمة لا إلى مَن يدينني!. لذا أطرح تحديدًا جديدًا للحياة المسيحيّة: أصير مسيحيًّا متى نجحتُ في التّمييز، كيانيًّا، بين الشّخص وما هو عليه!. ساعتذاك، أغار عليه وأكره ما يسيء إليه!. أرحمه وأُعينه على نفسه، كما لو كان ما هو واقع عليه واقعًا عليّ!. أحبّه كنفسي، بالصّلاة، بالمشورة، بالعمل، بالرّوح!. محبّة الأعداء تحتّم عليّ أن أكره العداوة!. هذه أقاومها بالحبّ، بغصب النّفس، بالإلحاح، بذكر اسم الله، بالاسترحام، بالثّبات!.

   الخطيئة، في الكنيسة، بحاجة لأن نفضحها ونتصدّى لها على كلّ صعيد، لا لأن نطمسها، في أنفسنا، وفي الآخرين، ونتناساها، أمانةً لكنيسة المسيح، أوّلاً وأخيرًا، ومحبّة بالله وبقريبنا وبذواتنا!. الموضوع يتخطّى كشف زلّة فلان أو فلان، بقصد الطّعن به، بصورة شخصيّة. عندك، واقعًا، حال مرضيّة برسم المعالجة. عندك وضع وبائيّ، يطالني ويطالك، ويطال كلّ المؤمنين ولا يسعنا أن ننام عليه!. عندك وجدان معطوب، مطبّع، في الكنيسة، بحاجة إلى مواجهة وإصلاح، كلّما غضضت عنه كلّما استشرى حاله!. يذهب الواحد فيحلّ محلّه آخر له عين العلّة وربّما أسوأ، ثمّ ثالث ورابع. ما لا تتصدّى له من مفاسد يصبح استئصاله أقسى!. في نهاية المطاف، أنريد أن نصلح العلّة أم أن نتعايش معها؟ أن نعالج المرض أم أن نموت فيه؟ أن نتصدّى للفساد أم أن نستسلم له؟ ألسنا موكَلين، بعضنا بالبعض الآخر، للخلاص؟ كيف نتمِّم ناموس المسيح، إذا كنّا لا نشاء أن يحمل بعضنا أثقال بعض؟!. أمعقول أن نغضّ الطّرْف عن المفسدة الّتي يأتيها شخص ما بحجّة حفظ كرامته؟!. طبعًا، التّشهير، كتشهير، ممنوع!. هذا عار!. ولكنْ، ما الّذي يسيء إلى كرامة الإنسان: ارتكابه المعصية أم اكتشاف المرض الّذي يعانيه والعمل على مداواته؟!. إذا ما تجاهلنا العلّة فإنّ صاحبها يموت فيها، ويعثر مَن حوله، ويطالب ربُّه بدمه مَن درى بأمره وغضّ الطّرْف عنه بحجّة أنّه لا يشاء أن يسيء إلى سمعته أو أن يجرح شعوره!. غير معقول أن نهتمّ بما يقول النّاس فينا ولا نبالي بما لله!. طبعًا، المحبّة لا تجيز لأحد أن يُحزن أحدًا مجّانًا!. لكن إن أحزنّا أحدًا للتّوبة، بمحبّة، مباشرةً أو مداورةً، فهذا ينبغي أن يكون مدعاة للفرح (2 كورنثوس 7)!. إذا ما كنّا لنتكلّم على البليّة، ونحرص، قدر الطّاقة، على عدم التّعرّض للشّخص كشخص، فهذا يُفترَض به أن يكون أمرًا ممدوحًا لا مذمومًا!. أنُسقط المسعى، ونُقلع عن محاولة المعالجة لأنّ ثمّة مَن يظنّ أنّك تقصد قيسًا أو عمرو وكأنّ المسألة شخصيّة؟ لا أعظم من أن يعين أحد أحدًا على نفسه!. ولا أسهل من أن تمتدّ النّار بالقدوة السّيّئة والإهمال!. ثمّ، بأيّ حقّ يدخل أحد إلى قصد أحد ويدينه عليه، وهو، أصلاً، لا يعرفه لأنّه عميق في نفس الإنسان؟!. فلان يشعر بالكلمة تخزه؟ أهذا أمر سيّء؟ أمعناه أنّ مَن ينطق بالكلمة يُلام؟!. لِمَ لا نظنّ الخير في قصد أحدنا الآخر؟ وَخْز الكلمة، أنّى أتت وكيفما أتت، مدعاة لإصلاح النّفس، لا لذمّ مَن يقول الكلمة!. المثلّث الرّحمات البطريرك ثيودوسيوس أبو رجيلي كان يقول: ويل لنا إذا كنّا لا نسمع ولا نقبل أن توجَّه لنا الملاحظات، وأن يقال لنا إنّنا نخطئ!. أحد أباء الكرسيّ الأنطاكيّ هكذا علّم وأنا سمعته: مَن أخطأ في السّرّ فليذهب إلى أبيه وليقرّ لديه بما فعل ويسأله أن يؤدّبه، وإلاّ ويل له!. أن تحسّ بخطيئتك، أعظم من أن تقيم الموتى!. وأن تُشْفَى منها أعظم، بما لا يُقاس، من أن يُشفى عشرة آلاف من أمراضهم الجسديّة!.

   صحيح، يحتاج الأمر، أحيانًا، إلى مكاشفة شخصيّة، حيثما أمكن، ولكن، حين تجدك بإزاء مرضيّة متفشّية، ماذا تعمل؟ أتخرس؟!. وحدهم اللاّمبالون والهراطقة والجاهلون والوصوليّون هكذا يفعلون!. يدّعون الحكمة والحرص وقلبهم فاسد!. ولكنْ، ماذا يفعل الّذين يضنيهم ضميرهم أنّهم إن عاينوا الباطل وما لفتوا، وما سعوا للتّصدّي له يدينهم ربّهم ويحملون وزر خطايا سواهم؟!. أليست معاينة المآثم والسّكوت عنها، في نهاية المطاف، اشتراكًا فيها وإزكاء لها؟!.

   إذا كنّا نرى اللاّحسّ، كلّ يوم، تتفاقم حاله، أنمعن في تفاقمه؟ ماذا، أقبيلة جاهليّة نحن أم كنيسة؟!. بِمَ أوصانا معلِّمنا: بحفظ الكرامات واللّياقات حيال بعضنا البعض، في كلّ حال، وفوق كلّ اعتبار، أم بمحبّة بعضنا البعض، والحرص على خلاص أحدنا الآخر، حرصنا، كلّ واحد، على ما لنفسه؟!. بكلّ تأكيد، نراعي بعضنا بعضًا، في إطار المحبّة، ولكن لا على حسابها!. المحبّة، أحيانًا، توجع، لكنّها، في كلّ حال، تتأنّى وترفق!. معيارها داخليّ، لذلك المراعاة تأتي من منطلق الحسّ الدّاخليّ، لا على أساس التّقديرات الأهوائيّة الاستكباريّة العشوائيّة!. حذار أن تصبح الرّحمة، بيننا، سببًا لتمادي الضّالّين في غيِّهم!.

   أما ترون؟ الهيكل يتصدّع!. حتّى متى اللاّمبالاة والتّكاذب؟ أكثر النّاس يعرفون أكثر ممّا يُقال بأشواط!. لِمَ تراه مقبولاً أن يثرثروا، فيما بينهم، ويتندّروا في شأن أوجاع غيرهم، ما يجعل خلاص مَن يثرثروا ومَن يُثرثَر عليهم، على المحكّ، وليس مقبولاً أن تقارَب الهموم بالمحبّة والجدِّيّة والرّصانة درءًا للمخاطر عن المبتلين بالتّجارب؟!. أعيب أن نقول عن الباطل إنّه باطل وندعو للابتعاد عنه ونحذِّر من الوقوع فيه، وليس عيبًا أن نصنع الباطل، وأن نجعل منه، في مجالسنا الخاصّة، مادّة للدّعابة؟!. أنذمّ الزّناة إذا قلنا، الزّنا يَحْرم مرتكبه الملكوت؟ ربّك قال هذا!. وبعد ذلك، نحذّر من قول الحقّ بحجّة أنّه غير لائق نشر الغسيل الوسخ!. ماذا يعني ذلك؟ يعني أن مَن يَدْعون إلى عدم نشر الغسيل الوسخ لا مانع عندهم أن يبقى الغسيل وسخًا، طالما لا يظهر للعيان!. هذا الصّمت المنتن الآتي من الشّيطان الأخرس الكذوب الممعن في الإفساد، حتّى متى نقيم في ظلّه؟!. سهلٌ القول: اهتمّ بأمر نفسك ودع الآخرين يجيبون لدى ربّهم!. كيف أعزل نفسي عنك، وخلاصي مرتبط بك؟!. كيف يمكنني أن أرتاح وغيري في تعب؟!. ليس أحد منّا جزيرة!. بقدر ما أمتدّ صوبك بالقدر نفسه أحقّق خلاص نفسي، وبقدر ما أشاركك حملك بقدر ما يخفّف ربّي عنّي ثقل خطاياي!. أليس أنّ المحبّة تستر كلّ العيوب؟!. تريد أن تحرمني فرصة أن أحبّ، كما أعرف؟.

   حاشا، بنعمة الله، أن يُترك للشّيطان الأخرس أن يقتل فينا كلّ حسّ بالاستقامة ويجعلنا شتاتًا منافقين، متهتّكين، مخادعين، مستهترين!. الكنيسة هي أنا وأنت!. كلّ واحد منّا الكنيسة، يحمل همّ كلّ واحد في الكنيسة، ولا يقبل بها إلاّ عروسًا ناصعة مقيمة في الضّياء!.لا أحد يخلص وحده!. ويل لنا إذا لم تكن سيرتنا وفق قولة مرنّم المزمور السّابع عشر: “أفسحتَ طرقي أمامي، فلم تتخاذل خطواتي!. سأقتفي أعدائي فأدركهم، ولا أرجعنّ حتّى أفنيهم!. أحطّمهم فلا يستطيعون وقوفًا، وتحت رجليّ سيسقطون” (17: 36 – 38)!. أعدائي هم خطاياي وخطاياك في آن معًا!.

   وبعد ذلك، ثمّة مَن يقول لك: ظروف الإصلاح، في الوقت الحاضر، غير مؤاتية!. ملفّات، صعوبات، انقسامات، ضغوط، تهديدات!. السّكوت أجدى!. بإمكانك أن تتكلّم في العموميّات أو عن القمر، إذا شئت، ولكن احذر الكلام على القضايا الحسّاسة ولو كانت تقضّ الكنيسة وتعثرها!. أيضًا وأيضًا، الشّيطان الأخرس يريد أن يقنعنا بأن السّكوت أوفق!. أيّ كنيسة كانت بقيت وأيّ ذهبيّ فم كان ليكون قدوة لخدّام الكلمة والمؤمنين لو أراد القدّيس يوحنّا انتظار رياح الظّروف أن تمسي مؤاتية للكلام والشّهادة والعمل، كأن يموت ثيوفيلوس الإسكندريّ وأن يجري اغتيال الأمبراطورة أفدوكسيا أو أن يُطاح الأمبراطور أركاديوس؟!. مَن ينتظر الظّروف أن تتحسّن تأتيه أسوأ، ويصير أضعف!. موضوع الظّروف المؤاتية وغير المؤاتية خدعة من الشّرّير ليضرب الكنيسة، ويشلّها، في عمقها، بالجبن والعقم والإحباط والانتظار، ويجعل عمل الله في الكنيسة أدنى إلى العمل السّياسيّ!. في كلّ تاريخها، ما ازدهرت الكنيسة أكثر ممّا ازدهرت في الشّدائد، أي في الظّروف المعتبرَة، دهريًّا، غير مؤاتية!. الباطل له أوقاته، أمّا الحقّ فكلّ وقت وقته!.

   النّاس بحاجة لا لمؤسّسة تنتظم بل لروح يتحرّك، لمحبّة تتفجّر، لحقّ الإنجيل يُستعاد ويُصان، لكلمات عاموص النّبيّ تحوز همّ خدّام الكنيسة وأبنائها وبناتها: “بغضتُ”، قال الرّبّ، “كرهت أعيادكم، ولست ألتذّ باعتكافاتكم… تقدماتكم لا أرتضي… مسمّناتكم لا ألتفت إليها. أبعد عنّي ضجّة أغانيك.. ليجرِ الحقّ كالمياه، والبرّ كنهر دائم” (5: 21 – 24)!.

   الصّمت بات مريبًا وكذّابًا وقتّالاً!. الأخرس دائمًا أصمّ!. مَن له أذنان للسّمع فليسمع!.

الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي
دوما – لبنان
9 أب 2015

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share