الوديعة الأثمن – المطران سابا (اسبر)

mjoa Tuesday August 11, 2015 84

الوديعة الأثمن – المطران سابا (اسبر)
قضى الياس، ابن قرية مشتى الحلو، مراهقته في مدينة حمص، في سبعينيات القرن الماضي، حيث تعرّف إلى إحدى الفرق التبشيرية، وتأثر بها، ووصل به المطاف طالب لاهوت في إحدى كلّياتها، في أميركا. هناك تعرَّف إلى طالبة تدعى جنّاتا، أحبّها وبادلته الحبّ، فتزوّجا بعد حصولهما على شهادة اللاهوت.

elias-machtahelouوصار الياس، في ما بعد، قسّاً في إحدى كنائس هذه الفرقة. بعد سنوات من خدمة رعيّته، وبالتحديد في العام 1995، التحق بكليّة لاهوتيّة عليا، بغية الاستزادة من علوم اللاهوت. لاحظ البروفسور المشرف على أطروحته نَفَسَاً أرثوذكسيّاً في الأبحاث التي قدّمها، فاستفسر منه عن مصدر هذه “الروحانية الشرقية”، بحسب تعبيره. وعندما علم بأنّه وُلد لعائلة أرثوذكسيّة، سأله مستغرباً: “كيف تهجر كنيستك وأنت وُلدت فيها، والمؤمنون ههنا يكتشفون أصالتها، ويعودون إليها بفرح من وجد “الجوهرة العظيمة الثمن؟”.

لم يكن الياس يعلم شيئاً عن المجموعة الكبيرة التي اقتبلت سرّ الميرون في الأبرشيّة الأنطاكيّة في العام 1986، وبدأت تصدر مجلة باسم “again” بغية تعريف المجتمع الأميركي بكنيسة الجذور، التي حملت التراث الإنجيلي بأمانة، وحفظته حيّاً فيها، وما تزال. دُهش الياس لهذا الخبر، فطلب من أستاذه الحصول على هذه المجلّة، وكانت بداية مرحلة جديدة من عمره. تابع بحثه عن الأصل الذي أضاعه، على ضوء خبراته الماضية، وعاد، مع زوجته وولديه ووالديه وإخوته وعائلاتهم، وبعضٍ من أبناء رعيّته السابقة، في العام 1998، إلى كنيسته الأم. وهو حاليّاً كاهن رعية القديس باسيليوس في مدينة كنساس سيتي.

الياس ليس الوحيد الذي قاده الروح في هذه الطريق. كثيرون هم الذين يكتشفون اليوم، بطرق مختلفة، ملء الحياة، في هذه الكنيسة، التي يدعوها الأب الفرنسي ليف جيله، وهو مهتدٍ من بدايات القرن العشرين، بالكنيسة “المعتّرة” لكنّها وحدها التي تعرف كيف تنشد “المسيح قام”، بتميّزٍ لا يُضاهى. تاريخيّاً، قامت حركة الإصلاح في أوروبا، في القرن الخامس عشر، ردّةَ فعلٍ على ما اعتبرته انحرافاً أبعد الكنيسة الكاثوليكية، آنذاك، عن أصالة الإنجيل وبساطته. وككلّ ردّة فعل، رمى الإصلاحيون بكثير من الأمور الأصيلة مع الدخيلة. فاكتفوا بالكتاب المقدّس.

وصار شعار الإصلاحيين أو المحتجّين (وهذا معنى كلمة بروتستانت) “الكتاب المقدّس وحده” Sola scriptula. لكن، سرعان ما بدأت الاختلافات الداخلية، انطلاقاً من هذا المبدأ. اختلفوا على تفسير الكتاب المقدّس. ولأنّهم قطعوا أنفسهم عن تراث عمره خمسة عشر قرناً من عمر الكنيسة آنذاك، اعتبروا أنّ الروح القدس يلهم كلّ مؤمن بالتفسير الصحيح. ما من مرجعية لديهم إذن، ما من مصدر يعودون إليه، ما من كلمة فصل تؤتمن عليها جهة ما، سوى الروح القدس الفاعل في كلّ مؤمن. وسرعان ما ظهرت جماعات حملت اسم قائدها مضافاً إلى كلمة الكنيسة، كاللوثرية والكالفينية وما إليْهما، بسبب الانقطاع عن الأصول والاكتفاء بالكتاب المقدّس وحده. اليوم، وبعد مرور أكثر من خمسمائة سنة على الحركة الإصلاحية، ثمّة ملاحظتان أساسيّتان: الأولى، وجود أكثر من ثلاثين ألف جماعة ضمن المذهب الإصلاحي، كلٌّ منها تعتبر ذاتها كنيسة يسوع المسيح. وهناك خلافات بين بعضها، تصل إلى حدّ إعادة معموديّة من ينتقل من واحدة منها إلى أخرى.

والثانية، بدء طرح أسئلة قاعدية عند بعض أعضائها، مثل: أيُّها، هي الكنيسة التي أسّسها الربّ يسوع المسيح؟ لماذا نرفض تراث القرون الخمسة عشر الأولى، فيما نقبل تراث القرون الخمسة الأخيرة المختصة بنا؟ لماذا نعتبر لوثر وكالفن وباركلي وكثير من المعلّمين “الإنجيليّين” الآخرين، شخصيات مرجعية، في السيرة والتعليم والتفسير، وبمثابة آباء، ونهمل آباء الكنيسة السابقين، كالذهبي الفم ويوحنا الدمشقي وبالاماس وسلوان الآثوسي؟ هذه الأسئلة، وأمثالها، قادت، وتقود، كثراً إلى البحث والتنقيب والدرس في تاريخ الكنيسة وعقيدتها وطقوسها وآبائها، والوصول إلى أنّ التراث الحيّ الأمين بقي محفوظاً في الكنيسة الأرثوذكسيّة، فعادوا، ويعودون، إليْها.

ولأنّه، ما من كنيسة أرثوذكسية تاريخيّة تأسّست بعد في العالم الجديد، فإنّ كلّ مجموعة أرثوذكسيّة ما تزال مرتبطة بكنيستها التاريخيّة الأمّ. يجد المهتدون في الكنيسة الأنطاكية “التي دُعي التلاميذ فيها أولاً بالمسيحيّين”، ولأسباب عديدة، مكانهم الطبيعي. هذا ما يفسّر بلوغ نسبة المهتدين فيها الخمسين بالمئة. هذا في أميركا، فماذا عن بلادنا؟ في الوقت الذي يهجر فيه بعضهم، كنيستهم الأم، لأسباب عديدة، لا يتسع هذا المقال لاستعراضها ومناقشتها، يجدر بهم أن يتأمّلوا مليّاً، ويفكروا طويلاً، قبل أن يخسروا الكنز الثمين، ويبيعوا، بثلاثين من الفضة، الأمانة التي استلموها.

لا يباع الإيمان بتأشيرة خروج إلى بلد آخر، ولا بحفنة من النقود، ولا بمساعدة مهما كانت ملحّة. كنّا نرجو من التبشيريّين الجدد الاقتناع بأنّ زمن شراء النفوس، باستغلال حاجات المنكوبين، وتشجيع الطمّاعين، قد ولّى. نتمنى، إن كانوا يبتغون خدمة المسيح وأتباعه حقّاً، أن يقدّموا المساعدة بحسب إنجيله القائل “مجاناً أخذتم مجاناً أعطوا”. أمّا الباقون على الأمانة “للإيمان المسلَّم دفعةً واحدة للقدّيسين” فنذكّرهم بقول المسيح للعبد الأمين، في مَثَل الوزنات: “طوباك أيّها العبد الأمين، لأنّك كنت أميناً على القليل، أقيمك اليوم على الكثير. ادخل إلى فرح ربّك”.

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share