المؤسّسة القاتلة المؤسّسة مدًى لحبّ الذّات!.(١٣) – الأرشمندريت توما (بيطار)
حِدْ عن رجل الله، في الكنيسة، تَلْقَ نفسك مشمولاً بروح المؤسّسة!. في روح المؤسّسة، في عمقها، ثمّة معطى واحد، أساسيّ، يتحكّم بها: لا مطرح فيها للخير العامّ، منزّهًا عن أيّ غرضيّة!. أنا قبل العالم والعالم لي!. كلّ المطرح، في المياه الجوفيّة للمؤسّسة، هو للمصالح الشّخصيّة!. قلب الإنسان نجيس منذ حداثته. وحده الرّبّ يسوع يعطي كلاًّ قلبًا جديدًا، إذا رغب، وإلاّ ليس له!. الإنسان قلب، يا صاحِ، أو يستحيل كتلة شهوات عدميّة!.
قد يبدو للنّاظر إلى المؤسّسة، عندنا، أنّه بإزاء شؤون كنسيّة مشروعة. لكنْ، ما هو مشروع ليس، بالضّرورة، لاهوتيًّا وروحيًّا، قويمًا!. العكس قد يكون صحيحًا!. كما قد يبدو أنّ المبتغى هو الخير العامّ للخلاص: عادات وشعارات وطقوس. هذا كذلك في الظّاهر فقط، فيما، وراء كلّ شأن، وداخل كلّ قضيّة، في المؤسّسة، مصلحة ذاتيّة!. العامّ، بالأحرى، مرسح للخاص!.
الله، دائمًا، وقطعًا، في المؤسّسة، واجهة برسم الاستغلال: سلطة، منافع، وجاهات!. الحماس لله ملطّخ، أبدًا، بالأنانيّات!. لا أخطر ولا آذى، روحيًّا، من المؤسّسة المعتبرة “كنسيّة”!. طالما للخادم صفة إلهيّة مزعومة ويتكلّم كما بسلطان يعتبره من فوق، وما يحفظ الأمانة، فإنّ صورته عن نفسه، هي كشبه إله ( demiurge)، وتتخطّى صورة أيّ رجل مؤسّسة دنيويّة، في انتفاخها وتعظّمها، حتّى تبلغ، في استكبارها الذّرى!. ليس كنسبة أحد نفسَه لله، زيفًا، يدنيه من الشّيطان!. يتصرّف كسيّد عن سيِّده، ظلمةً عن نور، تحت جنْح الخدمة، حفظًا لماء الوجه، أو حتّى من دون هذا الاعتبار!. هو، كيانيًّا، في عين نفسه، شبه “الكلمة” المنظور للإله غير المنظور!. يتردّد بين المسكنة المتكلّفة ومنتهى الجسارة، لا بل الوقاحة!. وقد يبلغ من انعدام الحسّ حدًّا يفوق التّصوّر حتّى يضحى ربّه، عمليًّا، مطيّة لأهوائه بالكامل!. بالسّلطان الّذي يتصوّر، أو يصوّر أنّه يستمدده من فوق، يُغيِّب الله إلاّ شكلاً ويقدِّم نفسه، فعليًّا، كنائب لله!. عند القدّيس يوستينوس بوبوفيتش، هذه ذروة خدعة الشّيطان!. الّذين هم كذلك، هؤلاء هم أضداد المسيح، أو قل “المسحاء الدّجّالين” الّذين تكلّم عليهم يوحنّا الحبيب، وصولاً إلى الضّدّ الأوّل للمسيح، اللاّعب دور المسيح، والمدعوّ، في سِفر الرّؤيا، “الوحش”، إنسان الخطيئة، ابن الهلاك، المقاوم والمرتفع على كلّ ما يُدعى إلهًا أو معبودًا، حتّى إنّه يجلس في هيكل الله كإله!. روح الوحش هو إيّاه روح أضداد المسيح!. أوّل حلول ضدّ المسيح هو كعابد ومنتهاه كمعبود!.
هذا يسمح به الضّابط الكلّ إلى حين!. سرّ الإثم الآن يعمل (2 تسالونيكي 2). المؤسّسة هي المدى بامتياز للأثيم!. لكن هذا، أيضًا، عند ربِّك، تدبير في إطار مشروع الخلاص!. لا شيء، في كلّ حال، يعطِّل عمل الله!. لا يمكننا أن نعمل شيئًا ضدّ الله بل لأجل الله، وإن كنّا لا ندري!. مَن حوَّل الصّليب إلى مدى للقيامة والحياة قادر أن يجعل من الإثم ترياقًا، بالألم، للبرّ!. سألت شيخًا روحانيًّا، مرّة: لِمَ يسمح الرّبّ الإله بخدّام مواربين في كنيسته؟ فأجاب: تأديبًا!. مقدار مدروس دقيق من سمّ الحيّة كفيل بشفاء أعظم الأمراض وتليين أقسى الرّقاب!. كيف؟ ربّك أدرى!. في ذلك اليوم تفهمون!. الفهم عند ربّك يأتي في الأخير!. قبل ذلك تتمسّك وتقبل تدبير إلهك وتسهر عليه وتثبت فيه!.
في تدبير الله، في المؤسّسة، يتسلّل العليّ كما عَبْرَ أهواء النّاس ونوازعهم ومصالحهم الخاصّة، ليصل إلى خير أحبّته وخلاصهم!. عند أهل المؤسّسة، “أناهم” قبل ربِّهم وأكبر، ويتحكّم به، ليمتصّ دوره حتّى يلغيه. أمّا عند العليّ، في كلّ حال، فالله يأخذ الحكماء، في عيون أنفسهم، بمكرهم!. بمفاسدهم يجعلهم يحقِّقون قصده، عنوة، وهم لا يعلمون ولا فضل لهم فيه!. قلوب العالَمين في يد الله!. لذا، في المؤسّسة، يظنّون أنّهم “يصادرون” الله، أمّا الرّبّ فسيّد الفطنة والأحاجي، الّذي من الآكل يُخرج أُكُلاً ومن الجافي حلاوة، كما نطق شمشون (قضاة 14)!.
ولكنْ، أمَا عند ربِّك رحمة وتوبة؟ طبعًا!. وأكثر!. من ذلك أنّ ربّك يترك ابنه المنشطر عنه يرتحل إلى بلد بعيد، إلى فكر بعيد، إلى غربة بعيدة، ويطيل أناته عليه، ابتغاء أن يعود إلى نفسه متى امتلأ كأس مآثمه، وأذلّته مآثمه إلى المنتهى!. يعود أو لا يعود؟ ربّك أعلم!. لكّل، في كلّ حال، فرصة كاملة للعودة، ويكون في السّماء فرح عظيم بخاطئ واحد يتوب!. لكن الرّحمة، قبل التّوبة، تعمل في الخفية، من خلال صلاة الكنيسة، على دفع الشَّرود إلى التّوبة. “رحمتك تتبعني جميع أيّام حياتي”. أمّا الرّحمة بلا تأديب، خارج إطار التّوبة، فتدبير نفسانيّ مسيء مؤذ، يدفع إلى الإمعان في الضّلال، فتتفاقم حال المريض بدل أن تتحسّن!.
على أنّ الخادم، في المؤسّسة المعتبرة “كنسيّة”، عرضة لتجارب تتنامى في القسوة بتنامي حجم المؤسّسة وسلطانها وقدراتها ومكانتها!. قد يبدأ الخادم على خصال حميدة، ثمّ، شيئًا فشيئًا، يعرِّضه موقعه لأخطار روحيّة جسيمة؛ وقد ينزلق، لا سيّما إذا لم يلتصق، بتواضع قلب، بأبيه الرّوحيّ، أو بأرباب المشورة المختبَرين، ولمّا يلازم روح الفقر والنّأي عن روح الرّئاسة والصّلاة الشّخصيّة، إلى مهاوي تعطِّل فعل خصاله الطّيِّبة، إذا وُجدت، وتستأسره لممارسات دهريّة، يظنّها للخير، فيما تعرِّضه وخدمتَه للعطب!. تجربتا السّلطة والمال، حتّى لا نتكلّم على سواهما، خطرتان، حيّالتان، يمكن أن تداهما الخادم وتدفعاه إلى الاستسلام لهما بحجّة الحرص على رفعة الكنيسة/الطّائفة ومصلحتها وأوقافها. هذا ولو بدا، في المناخ الطّائفيّ السّائد، كأنّه بديهيّة، فإن هو سوى ادّعاء غريب عن روح الكنيسة. ثمّة مَن يظنّ أنّ المال ضرورة لإتمام عمل الله، وأنّ السّلطة تساعد على الخدمة!. العكس، تمامًا، هو الصّحيح!. هذا إن صحَّ في المؤسّسة فلا يصحّ في الكنيسة!. فإنّ رفعة الكنيسة، ولا أقول الطّائفة، هي من أمانتها لربِّها وحفظها لوصاياه، لا من مكانتها المدنيّة والعالميّة وتعظّم شأنها بين الأطياف المكوِّنة للبلد الّذي الكنيسة فيه!. ومصلحة الطّائفة (!) ليست، في ذاتها، مطلبًا روحيًّا. المهمّ، أوّلاً وأخيرًا، سلامة قلوب المؤمنين وثبات إيمانهم واستقامة مسيرتهم!. ليس عندنا خادم مكلّفًا بشؤون الطّائفة وسلامتها، ولو كنّا نصلّي أن نتمِّم بقيّة زمان حياتنا بسلام وتوبة!. سلامة المؤمنين من سلامهم الكيانيّ وأمانهم من إيمانهم!. الإيمان الفاعل بالمحبّة هو الحاجة الّتي يسمِّيها الرّبّ يسوع: “الحاجة إلى الواحد”!. أمّا الأمان وعدم الأمان فرهن بتدبير ربّك لما هو موافق للتّنقية والتّقديس، ولا قيمة لأيّ منهما في ذاته!. أمّا الأوقاف، في إطار الفكر الممأسَس، فخطرها، أبدًا، أن تتحوّل إلى مجالات للاستثمار التّجاريّ نحو كنيسة/طائفة غنيّة بأرزاقها ومؤسّساتها!. هذا يدفعها، بالأكثر، نحو التّراخي في طلب نعمة الله والتّخلّي عن إرساء روح الشّركة في المسيح!. السّير، في هذا النّهج، يجعل الخادم، عمليًّا، هو المعنيّ أوّلاً وأخيرًا، لا ربّه، بما يتشوّف إليه، ولو كان سعيه في إطار ما يُزْعَم أنّه “مؤسّسة الكنيسة” (!)، وباسم الله!.
التّجربة الكأداء، الّتي نحن معرّضون لها، لتأمين استمرار الخدمة، هي اعتبار مساوئ المؤسّسة بمثابة شرّ لا بدّ منه بحجّة تنظيم الشأن الكنسيّ!. هذا غير مقبول!. لا الموضوع موضوع مؤسّسة ولا موضوع تنظيم!. لا المؤسّسة ولا التنظيم يفرعان خدمة وخدّاماً!. لا يجوز التّسليم بمعطًى أنّ الخدّام تنتجهم المؤسّسة، مهما كانت منتظمة، ووفقًا لشروط مؤسّساتيّة: شهادات، اختصاصات، سنوات خبرة وظيفيّة، توصيات، أخلاق مدنيّة عامّة، وحتى انتخابات، وما شاكل!. العكس هو الصّحيح!. الموضوع هو اختيار رجل الله، سواء أكان لخدمة الموائد أم لخدمة الكلمة!. أمّا نوع الخدمة فباعتبار الحاجة والمواهب!. ورجل الله هو الّذي يرى إلى الإطار التّنظيميّ الموافق لأداء خدمته!. المؤسّسة، كلّما نمت وازدهرت واستمرّت وباتت قائمة في ذاتها، خنقت وحدّت من حركة الرّوح في علاقة الخدّام بالمخدومين!. في الخدمة الحقّ، العلاقة شخصيّة، في المؤسّسة، العلاقة وظيفيّة!. في الخدمة الحقّ، العلاقة أخويّة، في المؤسّسة، العلاقة تجاريّة، بالمعنى العامّ للفظة “تجارة”!. في العلاقة الشّخصيّة الأخويّة، المحبّة تحكم، والرّوح يسود!. تكون العلاقة في المسيح. الخادم، في الخدمة، يعطي المسيح، ويبذل نفسه!. ما يعطيه يكون مشبَعًا بحضور السّيّد، وهو يعطيه كمِن أحشائه!. أمّا في العلاقة المؤسّساتيّة اللاّشخصيّة التّجاريّة، فيسوِّق الخادم، بروح الموظَّف أو الأجير، مادّةً أو قل خدمةً استهلاكيّة محدّدة!. المتلقّي، بالأحرى، زبون!. حتى ما نسمّيه “رعيّة”، إذا لم يكن الخادم/المستخدَم رجلاً لله، فإنها تتحوّل، على يده، إلى نوع من “الميني ماركت”، أو “السوبر ماركت” للسّلع والخدمات الاستهلاكيّة الدّينيّة!. المقاربة التّجاريّة تقيم حاجزًا صلدًا، بين الخادم والمخدوم، يحول، بعامّة، دون العلاقة الإنسانيّة الرّوحيّة بينهما!. حتّى في شأن خدمة الكلمة، المقاربة الجماهيريّة التكديسيّة تطيح المقاربة الشّخصيّة التقديسيّة، والمقاربة الطّقوسيّة الشكليّة المقاربة اللّيتورجيّة الشركويّة!. الرّعاية لا تعود رعاية لأشخاص، إلاّ ما ندر، بل أداء لخدمات استهلاكيّة تؤدّى لمَن يُعتبَرون، مجازيًّا، “أبناءً للرّعيّة”!. بسهولة، يصير الخادم، كنسيًّا، في واد، والمؤمنون، الّذين يخدمهم، في واد آخر، نظير البائع والشّاري!. أتكلّم على العلاقة الرّوحيّة الشّخصيّة بينهم!.
هذا يحتّم ضرورة إعادة النّظر في الهويّة العميقة للخدمة، بالتّركيز على الخادم، كأساس لتحديد نوع خدمته، لا العكس، وعلى المخدومين، كأساس لتحديد نوع الخدمات الّتي يحتاجون إليها!. الوجه المؤسّساتيّ للخدمة، والحال هذه، يحتّم أن يكون أيّ تنظيم للخدمة واقعيًّا، مرِنًا، باعتبار الحاجات الآنيّة للكنيسة، بسيطًا، مشخصَنًا، قابلاً لأن يُحتوى ولأن يتروحن!. المؤسّسة، إذا حددنا أنفسنا بها، قيد لا خدمة، بالمعنى الدّقيق للفظة “الخدمة”!. فيما الكنيسة كيان نبويّ روحيّ حرّ إلهيّ بشريّ!. هذا لا يجوز التّضحية به والاكتفاء، من الخدمة الكنسيّة، بالكلاميّات والورقيّات والخدمات الوظيفيّة والطّقوسيّة والأنشطة والمقاربات الإنجازيّة وما شابهها!. كما لا يجوز أن يكون موقفنا، ضمنًا: ينتفع من ينتفع ويعثر من يعثر ويطلّق الكنيسة من يطلّقها!!. هذا شأن النّاس!!.
ما لا ينمو فيه روح الله، ينمو فيه روح العالم!. وحيث روح العالم هناك العداوة التلقائيّة لروح الله واللاّمبالاة من جهة الكنيسة!. المقاربة المؤسّساتيّة للكنيسة بحاجة إلى إعادة نظر جذريّة، درءًا للمجزرة الروحيّة المرتكَبة، عندنا، بتواتر، عن وعي أو عن غير وعي، في حقّ أبناء الإيمان!.
الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي
دوما – لبنان
16 أب 2015