المؤسّسة القاتلة : إله المؤسّسة!.(١٤) – الأرشمندريت توما (بيطار)
ثمّة خادم قدّيس، ولكنْ ليست هناك مؤسّسة قدّيسة!. الرّوح يقيم في الخادم، لكنّه لا يقيم في المؤسّسة!. لذلك خدمة الرّوح مرتبطة بالخادم القدّيس، لا بالمؤسّسة ولو اعتُبرت المؤسّسة “كنسيّة”!. على هذا، فقط تسلسُلُ الخدّام القدّيسين ينشئ خدمة روح ومحبّة وحقّ، فيما استمرار المؤسّسة، ما خلا بعض الاستثناءات، الّتي لا علاقة لها بالمؤسّسة بحدّ ذاتها، لا ينشئ، على أسس التّنظيم والاختصاص والإدارة، سوى خدّام مشبعين بالرّوح الدّهريّة – وحبّ الذّات والرّوح الدّهريّة، في نهاية المطاف، وجهان لعملة واحدة -. ثمّ لا خدّام محبّة في المؤسّسة بل آلات، بالمعنى العميق للفظة “آلة”، في أحسن الحالات. هنا، أيضًا، الاستثناءات مردّها الأشخاص لا المؤسّسة!. أيضًا، لا خدّام حقٍّ في المؤسّسة، بل عملة نفعيّون، براغماتيّون!. الرّوح، في المؤسّسة، لا اعتبار له، في ذاته!. هو شأن الأشخاص!. يُتسامَح به، في أفضل الحالات، شرط ألاّ يؤثّر في إنتاج الخادم!. وأحيانًا، يُنظر إلى صاحبه شذرًا!. روحانيّاتك خاصّتك تعاطاها في بيتك، في المؤسّسة تخضع للنّظام!.
ثمّة مَن يظنّ أنّ النّهضة، في الكنيسة، رهن بوجود أساقفة يجيدون الخدمة، نظيفي الكفّ، اجتماعيّين، إداريّين، عمرانيّين، مفكّرين، يحسنون التّعليم والخطابة… وكذا، بوجود أعداد كافية من الكهنة اللاّهوتيّين، المثقّفين، النّشيطين، الخلوقين، من ذوي الأخلاق الحميدة، الحسني المعشر، ممّن يجيدون فنّ الكلام وأصول التّعليم، ويتمتّعون بروح القيادة واللّياقة وحُسن تنظيم الأنشطة على كافّة صعد الرّعيّة… كذلك، ثمّة مَن يظنّ أنّ النّهضة رهن بوجود مدراء للمؤسّسات الإنسانيّة والاجتماعيّة يتمتّعون بالكفاءة والأمانة… مَن يظنون ذلك ليسوا قلّة، بل هم الكثرة!. لو أمعن الواحد النّظر في معايير النّجاح لدى الخدّام في الكنيسة/المؤسّسة فماذا يجد؟ فلان ناجح لأنّه بنى كنيسة، لأنّ كنيسته منتظمة كالسّاعة، لأنّه صاحب إنتاج فكريّ، لأنّه واعظ جيّد، لأنّ كنيسته تمتلئ ناسًا كلّ أسبوع، لأنّ فرق العمّال والشّباب والأطفال، إضافة إلى النّساء، ناشطة لديه، لأنّ المؤسّسة، المُقام هو عليها، تربح، لأنّها مفخرة بجودة خدماتها، لأنّها تساهم في ترسيخ السِّلم الأهليّ، لأنّها مَعلَم حضاريّ…
كلّ معايير النّجاح، هذه، ملتبسة، تبدو كأنّها شروط بديهيّة لازمة لسَرَيان الرّوح الكنسيّة في الممارسة الرّعائيّة!. هذا غير صحيح!. هذا وهْم!. في ذاتها، لا قيمة روحيّة، ومن ثمّ كنسيّة لهذه المعايير!. هذه شؤون بشريّة مؤسّساتيّة!. الإلهيّات مجرّد موضوع لها!. كصفات، تصلح لأيّ مدى بشريّ آخر بحت!. لكن الإلهيّات ليست موضوعًا بل حياة إلهيّة جديدة في الجسد، وجدان إلهيّ بشريّ، إيمان فاعل بالمحبّة، منحى قداسة، روح في كيان الإنسان ثماره المحبّة، والفرح، والسّلام، وطول الأناة، واللّطف، والصّلاح، والإيمان، والوداعة، والتّعفّف… الخلط بين الرّوحيّات والإنسانويّات ولا أخطر!. فمآل الإنسانويّات النّفسانيّات الشّيطانيّات!. أمّا الرّوح القدس، فدائمًا منتظم، في الكنيسة، وأمّا النّظام، في ذاته، فلا روح له!. فيما المحبّة، دائمًا، لقاء، ولكن في مستوى القلب، في حين أنّ اللّقاء، في ذاته، من دون القلب، مجرّد تلاقٍٍ عابر، كلّ يطلب فيه ما لنفسه!. أمّا حقّ الإنجيل لديك فكون ربّك، دائمًا، فيك، فيما حقّ المؤسّسة أنّها، دائمًا، على حقّ، بالله ومن دونه!. المؤسّسة فوق الله!.
مأسسة الكنيسة كانت أخطر ما طرأ على الكنيسة في التّاريخ!. هذه، بالأكثر، حصلت منذ سلام قسطنطين!. أوّل الأمر، روح الرّبّ كان قوّيًّا في النّفوس!. لكنْ، شيئًا فشيئًا، أخذت المؤسّسة تقوى، وروح الرّبّ يهن!. بدا كأنّ الكنيسة والمؤسّسة واحد!. الرّوح، بدءًا، كان شاملاً ذوي الإيمان القويم!. كلّ المؤمنين كانوا قدّيسين، وإلاً ما كان لهم مطرح في الكنيسة!. ثمّ، مذ ذاك، منذ مطلع القرن الرّابع الميلاديّ، أخذت القداسة تنحسر عن الجماعة، كجماعة، لتصير من نصيب وجوه، هنا وثمّة، في الجماعة!. قليلاً قليلاً، في إطار المؤسّسة، المعتبرة “كنسيّة”، أخذت تبرز ظاهرة جديدة: الفكاك التّدريجيّ للاّهوت عن الرّوحيّات!. الفكريّات والنّفسانيّات أحرزت، في إطار المؤسّسة والوجدان، على حساب الرّوحيّات، تقدّمًا!. ثمّة توتّر، في العمق، نشب بين مَن أخذوا يركنون إلى المؤسّسة، والّذين لمّا يعرفوا الكنيسة ولمّا يرضوا بها، في حسّهم، إلاّ مدًى نبويًّا روحيًّا أخيريًّا!. لهؤلاء كانت ردود أفعال قويّة لأنّهم نظروا إلى الآتي، خطرًا يضرب الكنيسة في الصّميم، يطيح مضمونها، ولا يبقي منها إلاّ الشّكل، مؤسّسة بلا شهادة وبلا حرارة وبلا روح!. من ذاك الوعي العميق وُلدت الرّهبانيّة، تدريجًا!. كلّ الكنيسة الأولى، قبل قسطنطين، كانت جماعة رهبانيّة، بمعنى جماعة حقّ الإنجيل، تحيا في العالم كما في صحراء، وقِبلتها الملكوت وحده!. كيانيًّا، ذاقت الكنيسة الأولى، حتّى الثّمالة، قولة السّيّد لتلاميذه: أنتم لستم من هذا العالم، بل أنا اخترتكم من العالم!. فلمّا أخذ العالم/الصّحراء يخضوضر في عيون بعض الكنيسة، أخذت القلوب، تدريجًا، تميل عن العالم الآتي إلى العالم الحاضر!. فما إن صحا أقوام إلى الخطر المداهم، حتّى أخذوا يخرجون إلى الصّحراء حفظًا للّهف إلى الملكوت في دواخلهم، فكانت الرّهبانيّة مدًّا لروح الكنيسة الأولى، وصونًا للمدى الإلهيّ النّبويّ الرّوحيّ الأخيريّ في البيعة!.
طبعًا، في تاريخ الكنيسة، كانت لبعض الرّهبانيّة، هنا وثمّة، سقطاتها، لكنّها، بعامّة، كانت ولا زالت، مَن حفظت خميرة الحياة الجديدة وبثّتها وأطلعت العجين في الكنيسة جمعاء!. هي الرّهبانيّة، بخاصّة، الّتي خاضت المعارك اللاّهوتيّة الرّوحيّة الكبرى درءًا للهيمنة، لا سيّما الفكريّة، للمؤسّسة المعتبرة كنسيّة، والّتي تداخلت قواها، بعامّة، وقوى مؤسّسات الدّولة ومصالحها!.
بين القرن الرّابع والقرن التّاسع للميلاد، نمت الرّهبانيّة ونجحت في وقفتها ضدّ الهرطقة الآريوسيّة والنّسطوريّة وسواهما، وكذا الطّبيعة الواحدة، وصولاً إلى حرب الأيقونات، اقول نجحت في حفظ استقامة الرّأي في الكنيسة، وتكرّست، في وجدان الشّعب المؤمن، بصفتها قلب استقامة الرّأي وحافظة روح الكنيسة الأولى بامتياز!. هذا جعل تراث الكنيسة برمّته ذا صفة رهبانيّة!. قامت الكنيسة الأولى على شهادة الدّم!. دم الشّهداء بذار الكنيسة، قيل!. واستمرّت الكنيسة بشهادة الرّهبانيّة، بذلَ دمٍ ونسكًا!. في زمن شهادات الدّم، كان الرّهبان طليعة الشّهداء ومعلّميهم؛ وفي زمن السِّلم، كانت الرّهبانيّة شهادةَ نسك!. في الوجدان الرّهبانيّ كان، أبدًا، واضحًا، أن “أعطِ دمًا [والمقصود نسكًا] وخذ روحًا”!. هذا المنحى الرّوحيّ، وجدانيًّا، تمدّد ليشمل الكنيسة برمّتها!. لم تعد الرّهبانيّة، خاصّة بعد القرن التّاسع الميلاديّ، نمط حياة خاصّ في الكنيسة، بل أضحت ميزة الكنيسة، بعامّة، وسمة حياة الشّهادة المتواترة في الوجدان الكنسيّ العامّ، بها يغتذي المؤمنون وإليها يرجعون كمرجع وحِصن!. هكذا انحفظت أرثوذكسيّة الكنيسة الأولى وهكذا نمت وهكذا استمرّت وتستمرّ ككنيسة شهداء تحكي مَن شهد بدمه، بدءًا، على الصّليب أن “مملكتي ليست من هذا العالم”!.
ماذا يعني هذا التّطوّر التّاريخيّ؟ يعني أنّ الكنيسة/المؤسّسة نمت وازدهرت وترسّخت، ولكنْ، استمرّت، بإزائها، روح الكنيسة الأولى، في إطار الرّهبانيّة، وشهادة الدّم، في الحقب التّاريخيّة الصّعبة. بين هذا وذاك، التّوتّر كان ولا زال قائمًا!. المؤسّسة عملت وتعمل على كبح جماح الرّهبانيّة كمنحى روحيّ، والرّهبانيّة، ضمنًا، تهادن وتجتنب الصّدام بالمؤسّسة!. لا تشاء أن تدخل في مقاومة مفتوحة لها، لكنّها لا تشاء أن تركن إلى مسراها في آن!. روح المؤسّسة مشبوه لديها!. لذا التّوتّر، في المياه الجوفيّة، بينهما، يخرج إلى العلن، انتقادات وبعض تشنّج، من وقت لآخر!. المؤسّسة، بعامّة، تداري، والرّهبانيّة كذلك!. حكمةُ الاستمرار حتّى يرى ربُّك لكنيسته أمرًا!. الوجع في النّسيج الدّاخليّ!. لكن المؤسّسة ترغب في رهبنة شمّاسيّة لها!. حرّيّة الحياة الرّوحيّة لا تريحها!. وهذا، لو كان ليحدث، كما تشتهي المؤسّسة، لاستحالت الكنيسة، بالكامل، مدى فكريًّا نفسانيًّا للمؤسّسة، بلا روح!. بكلام آخر، كانت الكنيسة لتزول!. حاشا!. ما حفظ ويحفظ الكنيسة، إلى اليوم، هو الرّوح الّذي ما فتئ ينقدح، هنا وثمّة، في أوساط رهبانيّة، أو متأثّرة بها، قدّيسين وسِيَرًا وتعاليم!.
أمّا المؤسّسة، في ذاتها، فلا قداسة يمكن أن تخرج منها!. فإنّ لها، في أعماقها، إلهًا آخر يحكمها، ولو تجلببت بثوب خالق السّموات والأرض؛ هذا الإله كان ولا زال إلهًا ذا رأسَين: المال والسّلطة!.كلّ الآلهة التّابعة للمؤسّسة، من هذا المعين خرجت وتخرج، ومنه أيضًا، خرجت وتخرج كلّ هموم الكنيسة ومعاناتها… منذ التّحوّل الكبير في القرن الرّابع الميلاديّ!.
الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي
دوما – لبنان
23 أب 2015