إلى أخي في الأسقفية – المطران سابا (اسبر)
عندما وضع بطريرك أنطاكية يمناه على رأسك، وقد علاه الإنجيل الطاهر، مرفوعاً بأيدي إخوتك الأساقفة، استدعى الروح الإلهي عليك، لكي يكمّل نقصك البشري، ويشفي أوهانك، ويطلقك إلى خدمة كنيسته .
الأسقف، يا أخي، الأمين الأول على وديعة الربّ الأثمن، أعني كنيسته. بتَّ، منذ الآن، الرقيب الساهر على نقاء هذه الكنيسة المجاهدة واستقامتها. سهرك على نفسك وسهرك على الكنيسة لا ينفصلان أبداً.
على قدر ما تكون يقظاً على نقاوة نفسك، ومنتبهاً إلى خلاصها، ستكون عامل تنقية لكنيسة الربّ، وأداةً في سبيل خلاص أبناء أبرشيته، الذين وضعهم في عهدتك. هم أبناؤه، ويصيرون أبناءك على قدر ما تكون أنت ابناً لله حقّاً. الابن يحمل صفات أبيه. هكذا أنت تمثّل بأبيك السماوي. نحن البشر، والأساقفة منهم، إخوة لك. لكنّنا نحمل بشريتنا الناقصة، ونبقى دون المثال. أنت، ما لك وعثراتنا! ثبّت نظرك على المثال دوماً، وتوكأ على فعل ربّك، هنا وثمة، في إخوتك الضعفاء.
ستذهب إلى بلد غريب. حسناً، هذا يذكّرك ببيتك الأصلي: ملكوت السموات. ستخدم هناك شعباً وُلد على الإيمان الأرثوذكسي، وحمل ما يحمله ابن البيت، عادةً، من حريّة قد تصل إلى حدّ الأذية، وعيوب إلى جانب مزايا حسنة. وستخدم أناساً جاؤوا إلى الأرثوذكسية بعد رحلة بحث ودرس.
كن للجميع أباً. إنسان اليوم بحاجة ماسّة إلى أب. لقد أضاع عالمنا الحالي الأب. ستصادف، في إقامتك الجديدة، كثيرين ممّن لا يفهمون أبوّة الله، لأنّهم ما عرفوا لهم أباً على الأرض. وستكون أبوّتك لهم صورةً عن أبوّة الله. إن شعروا بتحنّنك وسهرك عليهم، وحزمك معهم عند اللزوم، سيلمسون الأبوّة، وسيتوجهون إلى الله صارخين “أبانا”. أوروبا رمت قلبها منذ زمن طويل، وصار عقلها متحكّماً فيها بالكلّية. أمّا الشرق فقد أوقف العقل، وترك قلبه أسير انفعالات وتأثيرات العاطفة.
أنت مدعو إلى خدمة الاثنين في أبرشيّتك. ولعلّ الله أرادك هناك لأنّه يعرف ما وهبك إيّاه، من توازن وانسجام بين الاثنين. أنت، عاملهم جميعاً كأبناء، وأحبِبْهم كأبناء. الأب يحبّ ويربّي وينشِّئ. رسالته هذه تنجح عندما تقوم على المحبّة والمثال الصالح والرصانة. مهما علّمنا وعملنا يبقى أنّ الناس تتأثر، على الأكثر، بمثالنا ومحبّتنا. ستتفرّغ، في أبرشيتك، للخدمة الروحية. ما من اندماج في ذلك الجزء من العالم بين الدنيا والدين، كما عندنا. ليس الناس بحاجة هناك إلى الكنيسة لكي تؤمّن متطلباتهم المعيشية. لكنّهم بحاجة إلى المعنى، معنى وجودهم، معنى حياتهم. رسالتك أن تشهد أمامهم على “ملء الحياة”، تلك التي فجّرها المسيح فيك، مذ وعيت قبره الفارغ وفعل حضوره فيك. الدنيا خلّابة لكنها لا تملأ، ولا تروي الراكض وراءها أبداً. والعالم بحاجة إلى شهود حقيقيين لفرح الربّ الحقيقي.
ستكون شاهداً لفرحه وسلامه وحضوره. ستفتقد، في بدء رعايتك الجديدة، الرعاية الشخصية، هذه تعوّضها برعايتك للكهنة أولاً. الأسقف، يا أخي، مسؤول يرعى الكهنة أولاً لكي يرعوا هم شعب الله. هم يعايشون الناس ويرافقونهم في تفاصيل حياتهم، لا الأسقف. لكن الأسقف يرسم لهم سياسة الرعاية ويوجّههم في خطوات تنفيذها، ويسهر عليهم ويقوّمهم، حتّى، إذا ما كانوا مطمئنين يتفرغون لخدمة رعاياهم، ناقلين إليها الطمأنينة والسلام الداخليين. أنت الآن مطران على أبرشية ومسؤول عنها، لكنّك، بحضورك في المجمع الأنطاكي، لست قاصراً ذاتك على أبرشيتك فقط. الأسقفية عالمية. كلّ أسقف هو أسقف عالمي، بمعنى أنّه يحمل أوجاع الكنيسة وتحدّياتها ويتحسّسها. لقد أُلقي علينا واجب المساهمة في مواجهتها وحلّها، أينما كانت. بالطبع وفق القوانين الكنسية الموضوعة. لا تقصِرْ نفسك على أبرشيتك وتنعزل عن إخوتك وأبرشياتهم. ساهم، ولو كنت بعيداً جغرافياً، في تمتين أواصر الوحدة بين أبرشياتنا. شعبنا يتوق إلى واقع يجعله يشعر بالإحتضان وسط عائلته الإيمانية. أيستوي أن نكون أعضاء في عائلة المسيح واهتمامنا منصبّ بكلّيته على جزء منها فقط؟ تأتي من شعب مجروح ومكسور لكنّه ما يزال واقفاً. ستصل إلى أبرشيتك وآلام شعبك الأنطاكي في قلبك، وستشهد هناك على إيمانه وقوّته الروحية. خبرة المعاناة تلقى أذناً عند الإنسانويين وقد تكون لهم مدخلاً إلى معرفة المسيح الحاضن، الذي لا يطلب مقابلها سوى “أن تكون لنا ملء الحياة”(يو10/1).
ستساهم في أن يكون المسيح سيّد قلوب أبناء تلك البلاد. أبناؤك الذين أتوا من كنائسهم إلى الأرثوذكسية إنما جاؤوا إليها طلباً للملء الروحي الذي وجدوه فيها. أنت تعرف أنّ الغرب بات مادياً إلى درجة مخيفة، لكنّ البشر ما زالوا يبحثون، في كلّ مكان، عن ملء روحي ما. أنت بما أوتيت من نشأتك في مناخ أرثوذكسي صاف، مدعو من الآن فصاعداً، إلى تجسيد ما خبرته في أرض جديدة ونفوس جديدة. ستحتاج في البدء إلى إصغاء وصبر وكثير من الصمت مع دقة ملاحظة؛ هذا، حتّى تتمكّن من فهم ثقافتهم وطريقة تفكيرهم ومنطق مخاطبتهم. هذا ستتعلّمه سريعاً بما منحك الله إياه من ذكاء وسلام وحبّ.
ضع كلّ شيء أمامه وانطلق بثقة. يكفيك أنّه من استدعاك وما طلبت، مرّة، ما أنت فيه الآن. وحده من رافق طوبيا بملاكه وأوصله سالماً، يرافقك ويسدّد خطواتك لتكون بحسب قلبه على الدوام.
* سلوان أونر رسم مطراناً على الجزر البريطانية وإيرلندا
٣٠ آب ٢٠١٥ في دير القديس جاورجيوس الحميراء البطريركي