أضواء على اختيار أساقفة الأبرشيّات!- الأرشمندريت توما (بيطار)
القوانين لا تصنع اختيارًا حسنًا!. فقط، تَحدُّ من الممارسات المسيئة!. واقعًا، في زمن النّهضة، يُصار إلى التّمسّك بها، درءًا للتّدهور، وحدًّا للتّفلّت؛ وفي زمن الانحطاط، بقوانين ومن دون قوانين، تسود الأهواء، وتكثر الاستثناءات!. في الأيّام العجاف، لسان حال الأهوائيّين: “القانون هو أنا”، على قولة الملك الفرنسيّ لويس الرّابع عشر!.
للرّوحيِّين، القانون فيهم، ولو بلا نصوص؛ ولغير الرّوحيِّين قانونهم أهواؤهم، ولو ملأوا الكتب نصوصًا!. قوانين بلا مخافة الله قيمتها سالبة!. لذا، أمران يُحتاج إليهما أبدًا: قوانين لضبط المخالفين، وتعاطي القوانين باستقامة قلب!. فرض القانون هو دور مَن يخافون الله، حفظًا للكنيسة ومحبّة بالمخالفين!. لا يسمحون للفساد أن يستشري ولا للكبار أن يتفلّتوا لئلاّ يحذو الصّغار حذوهم!. ويل لكنيسة يصير الفساد وعدم الفساد فيها عشيرَين، ويُكرِم فيها المعتَبَرُ نقيًّا غيرَ النّقيّ لأنّ هذا الأخير يحتلّ موقعًا كريمًا!. لا حقّ لأخصّاء الله أن يداهنوا أو يسكتوا، تحت أيّ ظرف، بحجّة الحفاظ على روح الوحدة!. إذا سكت هؤلاء فالحجارة تصرخ!. السّكوت عن العثرة العامّة تفريط بالوحدة الحقّ!. تجاهل الفساد، عند ربّك، اشتراك فيه!. وحيث لا إصلاح لاعوجاج، ولا كلمة حقّ تُقال، فضحًا لباطل، هناك يسود صمت القبور، وتكون الكنيسة المحلّيّة في طور الانحلال!. بلى، هناك كنائس زالت، ولو بقيت الكنيسة بالمطلق، لأنّ أبواب الجحيم لا تقوى عليها!.
أمّا بعد، فإثر مراجعة الشّروط الواجب توفّرها في المرشّحين لأسقفيّة الأبرشيّات، في قوانين الكرسيّ الأنطاكيّ، بين العامَين ١٩٠٦ و١٩٨١، تبيَّن لي أنّ التّغيير، بعامّة، طفيف. الرّؤية هي إيّاها. فقانون ١٩٨١ حدّد أن يكون المرشّح لأسقفيّة الأبرشيّة:
١ – من أبناء الكرسيّ الأنطاكيّ.
٢ – عارفًا اللّغة العربيّة، ولغة الأبرشيّة الّتي يُرشَّح لها.
٣ – متمِّمًا الثّالثة والثّلاثين من عمره وغير بالغ الخامسة والسّتّين.
٤ – حاملاً شهادة اللاّهوت من معهد أرثوذكسيّ.
٥ – قد مارس خدمة الكهنوت لمدّة ٥ سنوات.
٦ – حَسَن السّيرة والخدمة.
٧ – مدرَجًا في لائحة الأهليّة.
إلى ذلك أُشيرَ إلى أنّ المنتخَب يجري التّأكّد من قبوله نتيجة الانتخاب، وإلاّ يجري الانتخاب من جديد.
هذا، والإدراج في لائحة الأهليّة، في قانون ١٩٨١، غير واضح ما إذا كان إسميًّا أو إثر مقابلة، فيما يوضح قانون ١٩٧٣ أنّ المرشَّح يمثل أمام لجنة يعيِّنها المجمع لإبداء الرّأي في أهليّته.
الشّروط، بعامّة، في السّياق المذكور أعلاه، تحاكي شروط تعيين موظّفي الدّولة عبر ما يُعرَف بـ”مجلس الخدمة المدنيّة”.
على هذه الشّروط، نبدي الملاحظات التّالية:
١) الهمّ المسيطر على ما يجب توفُّره في المرشَّح لأسقفيّة الأبرشيّة، هو همّ مؤسّساتيّ بحت: تابعيّة، عمر، شهادات، سنوات خبرة، حُسن سلوك!. أين الهمّ الكنسيّ؟. أين الهاجس الرّوحيّ؟. رسالتا الرّسول بولس، الأولى إلى تيموثاوس، وإلى تيطس، تنفرجان عن هموم أخرى تمامًا!. الأسقف، فيهما، ينبغي أن يكون بلا لوم، متواضعًا، وديعًا، ورعًا، ضابطًا لنفسه، عفيفًا، صاحي الذّهن، عاقلاً، غير مدمن الخمر، غير ضرّاب، ملازمًا الكلمة الصّادقة، غير مخاصِم، مضيفًا للغرباء، حليمًا، غير محبّ للمال، غير طامع بالرّبح القبيح، يوبِّخ مَن يناقضون التّعليم القويم، وله شهادة حسنة من الّذين هم من خارج!. هذه شهادته وهذا لاهوته!.
٢) تُرى، هل تؤمِّن “شهادة اللاّهوت” للمرشَّح الصّفات الرّوحيّة المشار إليها أعلاه؟ كلاّ!. شهادة اللاّهوت أكاديميّة الطّابع، يتخلّلها بعض الإعداد الرّعائيّ، النّظريّ والعمليّ، ويصار، خلال فترة تحصيلها، إلى متابعة برنامج صلوات يوميّ، وإلى لقاءات روحيّة، ويُفسَح للطّالب، في المجال، فيها، أن يؤدّي اعترافات شخصيّة لدى أحد الآباء الموفورين. الباقي، بعامّة، عائد إلى رغبته وجهده الشّخصيَّين!. ولكنْ، أين هذا من اقتناء الميزات والفضائل المنوَّه بها؟. عندك، فوق، لاهوت معيش، وعندك، هنا، لاهوت، بالأحرى، كلاميّ!. هذا الأخير ينفع، بلا شكّ، ولكنْ، فقط، إذا توفّر الأوّل!. اللاّهوت الأكاديميّ، لوحده، لا يكفي!. بالعكس، أحيانًا، قد يكون مضرًّا، ويسبِّب العثرات!. نستنتج من ذلك، إذًا، أنّ شهادة اللاّهوت لا تصلح لأن تكون معيارًا كافيًا وافيًا للأهليّة!.
٣) لعلّه يخطر بالبال أنّ كون المرشَّح حَسَن السّيرة والخدمة يسدّ الفراغ الّذي لا يتيسّر لشهادة اللاّهوت ملؤه. هذا كلام عامّ، يمكن أن يصحّ على الأسقف المرشَّح كما يمكن أن يصحّ على أيّ موظّف مدنيّ عاديّ!. السّيرة الحسنة لا تعني الاستقامة الرّوحيّة ولا حياة الفضيلة بل الأخلاق العامّة!. عمليًّا، الاكتفاء بحسْن السّيرة والخدمة، عن الحياة الدّاخليّة للمرشَّح، تسييبٌ لحقيقة ما هو وجدانه العميق عليه، واعتبارٌ للهمّ الكنسيّ الرّوحيّ شأنًا شخصيًّا متروكًا لصاحبه، ولا يخضع للفحص هنا، بل عنه يجيب المرشَّح، في اليوم الأخير، ولا يدخل، من ثمّ، ضمن الشّروط الواجب توفّرها لأسقفيّة الأبرشيّة!. هذا يجعل شأن التّنشئة الرّوحيّة في يَدَي مَن لا تبالي برصد حاله الدّاخليّة!. في هكذا موقف، بلا شكّ، ما هو عائب مريب!.
٤) إنّ القول بضرورة أن يكون المرشَّح من أبناء الكرسيّ الأنطاكيّ، ما معناه وما مداه؟!. هل معناه أنّ تأكيده مردّه ضرورة دراية أبناء الكرسيّ الأنطاكيّ بأحوال كنيستهم المحلّيّة، ومن ثمّ بسبل خدمتها على نحو أفضل؟. وهل مدى القول هو أنّ الكهنة العازبين هم وحدهم المقصودون ، كما هي الممارسة؟. ملاحظتنا على معنى القول، أنّه طبيعيّ أن يخدم أبناء كلّ من الكنائس المحلّيّة كنيسته، إلاّ في أحوال استثنائيّة، وردت أمثلة عديدة عنها في التّراث. أمّا اعتبار مدى القول مقتصِرًا على فريق الكهنة العازبين في الكرسيّ، فأمر، ولو درج، فإنّه عائب!. قبل الكهنة العازبين كان الميل إلى الرّهبان المتقدّمين لأنّهم هم ذوو الخبرة في الحياة الرّوحيّة، بصورة أخصّ!. أفهم أن يحتلّ بعض الكهنة العازبين الورعين البارزين المشعِّين، موقع الرّهبان المميَّزين، بعدما أخذ عدد الرّهبان، عندنا، يتناقص. ولكنْ أن يُعتبَر الكاهن العازب، بعامّة، وريث طغمة الرّهبان، في المجال الّذي نحن بصدد الكلام عليه، فهذا خروج صارخ على الوجدان الكنسيّ التّراثيّ!. لا فقط، العزوبة، بعامّة، لا تعادل الرّهبنة، بل هي تشويه خطير لها!. الكاهن العازب الّذي ليس همّه ولا هاجسه الرّبَّ يسوع، وليس شوقه إلى الفقر والنّسك، ولا تعزيته في الصّلاة والكلمة، ولا سعيه إلى خوض الحرب اللاّمنظورة وتنقية القلب، ولا لهجه ولا فرحه بذِكر الله، هذا، بلا شكّ، يقيم، في المدى الأسقفيّ، في غير الموقع الّذي ينبغي أن يكون فيه!. والكنيسة، باختيارها إيّاه، أسقفًا لها، أي، عمليًّا، قدوة لمؤمنيها، ونموذجًا لحبيب المسيح، لأنّ له “شهادة لاهوت” وصوته جميل ويتقن إقامة الطّقوس وهو رجل علاقات عامّة جيّد، وما إلى ذلك، من أسباب دهريّة، أقول، الكنيسة، عندما تختاره، تجعل، على خرافها، راعيًا لا يعدو كونه إنسان شهوات مُرّة وعقد نفسيّة جمّة، وهو أعجز من أن يقود الخراف إلى مراعي الخلاص لأنّ مكمن همّه في رعاية أهوائه، وهو أوهى من أن يُلهب القلوب بمحبّة الله، لأنّه لا يعرف، أصلاً، إلاّ أن يحبّ نفسه، وليس في وارد تقديس نفسه والرّعيّة، ولا هو قادر على أكثر من تقديم الكلام الأجوف وإقامة الطّقوس بلا روح وتعاطي المجاملات الفارغة وتقديم بعض الخدمات ذات الطّابع العامّ، الّتي لا صلة لها بخدمة روح الله، شأنه، في ذلك، شأن السّاسة والأعيان في هذا الدّهر، من باب المحسوبيّات!. الكاهن العازب، والحال هذه، يشوِّه كهنوت المسيح، ولا يعدو كونه عامّيًّا، وأحيانًا غير مؤمن، له جمّ من الإعاقات الشّخصيّة، في ثوب كهنوتيّ!. الكنيسة الّتي تختار شخصًا من هذا النّوع إمامًا لها، لا شكّ أنّها تعاني صعوبات في حسِّها القويم ووجدانها التّراثيّ!.
٥) نحن بحاجة إلى رهبان متجلِّين؟ ولكنْ، ماذا نعمل إذا لم يكن لنا؟ الكاهن العازب، كخيار ثان، خيار سيّئ جدًّا!. حتّى هذا الخيار، اليوم، هامشُه ضاق كثيرًا!. مع ذلك، أعود فأُكرِّر، بعض الكهنة العازبين، لا شكّ، مبارَكون!. فما العمل، والحال هذه؟ نبحث، بكلّ بساطة وصدقيّة، عن المؤمن المتقدِّس الّذي يتحلّى بصفات تخوِّله أن يرعى خراف المسيح!. هذا يمكن أن يكون حتّى من العامّة، كما كان أمبروسيوس، الّذي صار أسقفًا لميلانو، كما يمكن أن يكون من الكهنة المتزوِّجين أو المترمّلين، كما كان الحال في الكنيسة، خلال القرون الخمسة الأولى من تاريخها!. شهادة اللاّهوت والعمر والخبرة لا يليق أن تكون عائقًا!. أنريد متقدِّسين أم موظّفين دهريِّين؟. مَن اتّسم بالصّفات الإلهيّة المستحقّة الجدارة، إمّا يكون قرّاءً، أصلاً، أو يصير قرّاءً إذا ما كان ذلك لينفع الخدمة!.
٦) شهادتان، من تاريخنا الحديث، أودّ إيرادهما، في هذا السّياق. مرّة، خلال أزمة المطارنة الأربعة، وكان التّهديد بالانشقاق على أشدّه، وكنت شابًا، قلت للمطوَّب الذِّكر الأرشمندريت إلياس مرقص: ليتهم يجعلونك مطرانًا!. فأجابني: الحمد لله، ليست عندي شهادة لاهوت!. أثمّة مَن يريد أن يقنعني بأنّ الأب إلياس لم يكن يعرف اللاّهوت، وهو، من ثمّ، لا يصلح لأن يكون معلِّمًا للقداسة واللاّهوت، وتاليًا مطرانًا، راعيًا لخراف المسيح؟. ربّما، كان أجدى له أنّه بقي راهبًا، لكنّي أتكلّم من جهة حيازة شهادة اللاّهوت كشرط للأسقفيّة!.
والمناسبة الثّانية أنّي كنتُ، مرّة، جالسًا إلى غبطة المثلّث الرّحمات، البطريرك الرّاحل إلياس الرّابع، وكان يفضي إليّ ببعض آلامه، وهو سامني شمّاسًا. قال في طفرة تشبه اليأس: لا بدّ للمطارنة من أن يتزوّجوا، مستحيل أن تبقى حالهم على ما هي عليه!.!.!.
خلاصة القول، إمّا أن يكون بيننا أشخاص لمسهم روح الله، وهم أهلٌ لأن يقودوننا إلى وجهه تعالى باللَّطَف والمحبّات والمواهب الّتي يجعلها في قلوبنا، وإمّا أن نكون قد فرغنا من سمات القداسة!. الأمر الثّاني تَجَنّ لست أقبله!. الله أَرحم!. أمّا الّذين تعتلج أمواج روح الله فيهم فقائمون، حتمًا، بيننا!. فقط نحتاج إلى الخروج من عقدنا ومخاوفنا وأَسننا، لنخرج إلى البحث عنهم وإقامتهم علينا، بتواضع وواقعيّة كنسيّة، لكي لا نموت!. هذه هي النّهضة المرجوّة ومدخل النّهضة الحقّ!. خيارنا هو بين العودة إلى الحبّ الطّفوليّ الأوّل وملازمة الظّلمة وظلال الموت كَمَن هرموا!. أما تشتمّون رائحة العفن تنبعث من هنا وهناك، عندنا؟!. أما كفانا إرث موات؟!.
الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي
دوما – لبنان
13 أيلول 2015