اكفرْ بنفسك واتبعْني – المطران جورج (خضر)
يتحدث الرب في إنجيل اليوم عن نكران الذات بقوله: “من أراد أن يتبعني فليكفرْ بنفسه ويحملْ صليبه ويتبعني”. ثم يقول: “ماذا ينفع الانسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه، او ماذا يعطي الانسان فداء عن نفسه؟”.
السؤال المطروح هنا هو هذا: كيف يريد الرب من جهة ان يكفر الانسان بنفسه، ثم يريد منه ان يربح نفسه؟ وكأن هذين القولين متناقضان.
ان قوله في المقطع الأول “فليكفر بنفسه” يعني ان يتجرّد المرء من شهواته، من كل أهوائه ومن دنياه. فإنه كان يحسب ان نفسه، اي ذاتيته، هي في الدنيا التي يعبّ منها ويأكل منها ويستولي عليها ويتمجّد فيها. كان يحسب هذا الانسان انه موجود إن اقتنى أملاكًا او صار كبيرًا في قومه. ان هذا الانسان يجد نفسه في أعين الآخرين، يرونه كبيرا فيكبر، ويرونه فطنا فيعظم. ولكنه اذا وقف وحده في خلوة أمام الرب يرى نفسه فارغا. الانسان الأجوف يملأ ذاته من كل ما في دنياه ليتعرّف على نفسه على انه قائم.
كل منا مصاب بهذه المصيبة على درجات، ولهذا يقول السيد: اكفروا بأنفسكم، اكفروا بأموالكم، اكفروا بأمجادكم. قد تأتيكم الأمجاد، ولكن احسبوها كلا شيء. قد تأتيكم الأموال فاحسبوها كلا شيء. قد تأتيكم الملذّات على أصنافها، ازهدوا بها واعتبروها زائلة. هكذا تسيطرون على الدنيا ولو كنتم في الدنيا.
لا تظنوا أنفسكم ذوي شأن، فأي داء قد يذهب بكم في لحظة. لذلك من عرف انه يموت، يعرف انه كان في حياته كلا شيء. وإذا توصّلتم الى ان تكفروا ليس فقط بخطاياكم وشهواتكم، ولكن ان تكفروا بذواتكم، عند ذاك تربحون أنفسكم لأنكم قلتم للرب: يا سيد، نحن فهمنا اننا لسنا بشيء وانت كل شيء، فتعال ايها الرب يسوع واملأ نفوسنا من حضرتك. اذا أخذتم تذوقون هذه الحضرة، يبدأ تكوّنكم. تتكوّنون من الله، تصبحون أناسا جددا. كل ما فيكم وعندكم هو منه، وأنتم له في كل حين شاكرون.
يضطرّنا هذا ان نتبع المعلم حتى النهاية، ان يحمل كل منا صليبه ويتبع السيد. هذا هو الصليب ان نُميت كل ما يعرقل سَيرنا الى المسيح، والدرب لا تنتهي عند الجلجلة. ولكن كيف نموت مع المسيح؟ أن نميت هذا الجسد وأهواءه. من له القدرة أن يعتبر الحياة كلها كلا شيء، أن يسحقها في عينيه، في قلبه، يقترب من نكران الذات. وإن كنا لا نعمل هذا، نبقى متحيّرين بين الله والشيطان. من أين لنا أن نحبّ الصليب، ومَن يحبّ أداة عذابه؟ فالصليب آلام، والسيد يطلب الينا ان نتقبل الآلام برضاء او أن نُسرّ بها بسبب ما ينتظرنا من بعدها، بسبب الفرح الذي يحلّ فينا إن نحن عانقنا المصلوب، ان زهدنا بهذا العالم.
“اكفر بنفسك واتبعني”. الانسان لا يحب الانسان حتى النهاية. غالبا لا يموت الانسان من اجل الانسان. كل منّا يموت وحده. ولكنّ هناك شخصا واحدا أَحبّنا حتى المنتهى. كان ممكنا للمسيح ان ينزل على الارض ليس فقط في سبيلنا كلنا، ولكن في سبيل كل منا بمفرده. نحن محبوبون كل منا بمفرده، ولذلك نستطيع ان نحمل صليب الذي أحبّنا وأَسلم نفسه عنا.
جاورجيوس مطران جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)
نشرة رعيتي
20 أيلول 2015