المسيحيّة لن تزول من بلادها – الأب جورج مسّوح
يظنّ المسيحيّون في بلادي، أو معظمهم، أنّ وجودهم في هذا الشرق لن يدوم من دون مؤازرة سلاطين هذا العالم وجبابرته، أو من دون التخلّي عن “الطوباويّة” المسيحيّة. فيما إذا عدنا إلى التاريخ المسيحيّ لوجدنا أن ديمومة المسيحيّة قامت أساسًا على الإخلاص والوفاء لتعاليم السيّد المسيح، تلك التعاليم التي بلغت ذروتها على الصليب.
ومن الخطأ الاعتقاد أنّ الحضور المسيحيّ قد استمرّ في الشرق إلى أيّامنا هذه بفضل القوّة الذاتيّة للمسيحيّين.
ففي نهاية القرن الميلاديّ الثاني وجّه كاتب مسيحيّ مجهول إلى امرئ وثنيّ اسمه ديوغنيطُس رسالةً دفاعيّة عن المسيحيّة، قال له فيها: “ألا ترى كيف يرمون بالمسيحيّين إلى الوحوش ليرغموهم على نكران السيّد (المسيح) فلا ينغلبون؟ ألا ترى أنّه كلّما كثر الشهداء كثر المسيحيّون؟”. ويضيف كاتب الرسالة قائلاً إنّ المسيحيّين لا يحقّ لهم، وإن كانوا مجتمعًا صغيرًا، أن ينعزلوا في غيتوات، إذ إنّهم في وسط العالم يخصبونه مثل القوّة التي تبثّها النفس في الجسد.
هذه الرسالة التي دُوّنت في أوج عصر الاضطهاد الذي مارسته الإمبراطوريّة الرومانيّة ضدّ المسيحيّين، تعبّر خير تعبير عن ذهنيّة مسيحيّة متجذّرة في الإنجيل. فالاضطهاد لم يثنِ المسيحيّين عن الإيمان، بل زاد عددهم. لم يتملّك الخوف من نفوس المقبلين على الاضطهاد ولم يثبط من عزيمتهم، بل زادهم إصرارًا على صواب معتقدهم ورجائهم بالحياة الأبديّة. فاقبلوا على الاستشهاد كمَن يقبل على الحياة الحقّ. لذلك سمّي هذا العصر بالعصر الذهبيّ للمسيحيّة.
لم يمالئ المسيحيّون الأباطرة والولاة والحكّام، ولم يهادنوا نيرون أو ماركوس أوريليوس أو ديوكليسيانوس، ولم يتعاونوا معهم، ولم يخضعوا لسلطانهم. ولم يتوانَ بعض رجال البلاط الرومانيّ وبعض الضبّاط والجنود ممّن أشهروا مسيحيّتهم عن التخلّي عن وظائفهم ومصادر رزقهم كي لا يخدموا دولةً ظالمة، فأقدموا على الاستشهاد بعد أن تخلّوا عن أسلحتهم التي كانوا يقدرون على القتال بها، ليشهدوا للربّ وكنيسته. هكذا انتصر بطرس الرسول، صيّاد السمك، وبولس الرسول على نيرون وحاشيته. هكذا انتصرت الكنيسة على الإمبراطوريّة.
أمّا ثاوذورُس أبو قرّة، أسقف حرّان الأرثوذكسيّ (+حوالى عام 830)، فيورد في ميمره “في وجود الخالق والدين القويم” براهين عديدة على صحّة الدين المسيحيّ وأصله الإلهيّ من انتشاره المعجز، فيقول: “كان تلاميذ المسيح اثني عشر رجلاً من اليهود، واليهود كانت أسقط أمّة في الدنيا عند الأمم وأبغضها إليهم. وكانوا (أي الرسل) أنذل مَن في أمّتهم. لا حسب ولا نسب لهم في الدنيا يطمع فيهم أحد وينقاد إليهم من أجله. وايضًا لم يكن لهم في الدنيا مال ولا منزل ولا مأوى ولا ثوبان ولا طعام يومين ولا مخلاة لينقاد إليهم التماسًا لعطيّتهم. وأيضًا لم يكن لهم ملك ولا سلطان ولا سبب في الدنيا ولا عزّ لينقاد إليهم أحد لقهرهم أو لخوفهم أو لالتماس العزّ. بل قد كانوا على خلاف ذلك، كلٌّ يقهرهم ويهينهم. وأيضًا لم يكن فيهم مَن يفهم كتابًا ولا مَن عرف شيئًا من الحكمة الدنيويّة لينقاد الناس إليهم من أجلها. وكانوا يدعون إلى دين النصرانيّة ولا يرخّصون للناس في تناول شيء من شهوات الدنيا، ولا كثرة نسائها ولا لذّاتها ولا فخرها لينقاد الناس إليهم، بل على خلاف ذلك كلّه، يعلّمون ترك ما فيها رأسًا”.
ثمّ يورد ثاوذورس البراهين المتّصلة بالتغييرات التي أحدثتها المسيحيّة في أخلاق الأمم والشعوب التي اعتنقتها، فيقول: “إنّ الأمم كانت في نعيم طيّب، طعام الدنيا وشربها وسكرها، فألزمتهم الصيام الشديد والاقتصار على الخبز والماء. وقد كانت الأمم تتمادى على تزويج النساء واتّخاذ الجواري كالخيل، مع الزناء الفاحش القبيح، الذي لا يحلّ ذكره فحسمتهم عن كلّه وألزمتهم العفّة، والاقتصار لـمَن أراد الدنيا على امرأة واحدة إلى يومنا هذا. وقد كانت الأمم تغضب وتنهب مال كلٍّ وتقهر كلاًّ على شبه ذلك، فكفّتهم عن ذلك وصيّرتهم يوزّعون مالهم ومتاعهم على أهل الفقر والحاجة”.
يتابع أبو قرّة براهينه عن صحّة المسيحيّة المستقيمة بتذكيره بتعاليم يسوع المسيح في الأناجيل، فيقول: “كانت الأمم سباعًا (وحوشًا) لا تُرام، تبتلع الناس وتسحق عظامهم وتأكل لحومهم بلا رحمة ولا مرثية، فصرفتهم عن ذلك، وصيّرتهم كالخراف بين الذئاب، يُشتمون فيحتملون، يُضربون فيعفون، يُلطمون على الخدّ الأيمن فيحوّلون الأيسر، تؤخذ ثيابهم فيجودون بأكسيتهم، يُسخَّرون ميلاً فيتسخّرون ميلين. يُستوهبون فيهبون، يُستقرضون فلا يمنعون، يُلعنون فيباركون، يُبغَضون فيحبّون، وغير ذلك من مثله”.
ثمّة كتابات أخرى تضيق بها مساحة هذه المقالة، وكلّها تذهب في الاتّجاه عينه الذي سلكه كاتب الرسالة إلى ديوغنيطس وثاذوروس أبو قرّة. وقد استمرّت المسيحيّة على الرغم من تبنّيها هذا المنهج الوفيّ لتعاليم المسيح، هذا المنهج الذي في اعتقاد بعض الناطقين باسم المسيحيّة اليوم سيؤدّي، إن تمّ تبنّيه، إلى زوال المسيحيّة.
إنّه لخطأ فادح أن يربط المسيحيّون بقاءهم ببقاء نظام يحميهم، أو بتدخّل أجنبيّ يذود عنهم. أمّا الأشدّ خطرًا فهو أن يتخلّى المسيحيّون عن رسالتهم وشهادتهم، التي يمكن إيجازها بحمل الصليب، في سبيل بقائهم. لذلك على المسيحيّين التمسّك بالإيمان والرجاء والمحبّة والصبر، حتّى تنقضي هذه الأيّام السوداء. أمّا المسيحيّة فلن تزول إذا أراد لها المسيحيّون ألاّ تزول.
ليبانون فايلز
23 أيلول 2015