في الوحي المسيحي – المطران سابا (اسبر)
المسيحيّة ديانة شخص، لا كتاب. هي مرتبطة كليّاً بشخص الربّ يسوع المسيح. وتأتي أهميّة الكتاب المقدَّس فيها، من حيث حفظه لبشارة يسوع، وكون يسوع محوره في العهدين القديم والجديد. المسيح مؤسِّس المسيحيّة ومحورها وألفها وياؤها. هو كلّ شيء في كلّ شيء فيها. ليس المسيح نبيّاً، وإنّما هو الربّ. ليس مُصلِحاً وإنّما هو المخلِّص. المسيح كلمة الله الذي كلّمنا الله بواسطته. بهذا المعنى يسوع المسيح، لا الكتاب المقدَّس، كتابنا المقدَّس. أو إن شئتم، بتعبير إسلامي، هو قرآننا، بمعنى أنّه هو من أُنزل إلينا.
يحدّثنا الكتاب المقدَّس عن يسوع المسيح؛ يخبرنا عنه، وعن محبّته وسعيه لخلاصنا، وعن مرافقته للبشريّة حتّى “صار الكلمة بشراً وعاش بيننا”(يو1/14).
للكتاب المقدَّس مكانة عظمى عند المسيحيّين. قد يختلفون حول اعتباره مصدراً وحيداً لعمل الروح أولاً، ولكنّهم جميعاً يجلّونه ويقرؤونه بورعٍ، ويُقبلون إليه بوَلَهٍ، كمن يُقبل إلى رسالة محبوبه.
وإلى ذلك، يؤمنون بأنّ عمل الله، في التاريخ، لا يقتصر على فترة زمنيّة بعينها. فالله يعمل في الخليقة دونما توقّف. “أبي يعمل في كلّ حين وأنا أعمل مثله”(يو5/17). وإنْ كان للكتاب المقدَّس المكانة العظمى، فلأنّه يتحدّث عن تدبير خلاص البشريّة، الذي أعدّه الله لها، بعد سقوط الإنسان الأوّل من الفردوس. تدبير الله هذا بدأ بإبراهيم واكتمل بيسوع المسيح، فكان الزمن بينهما زمن انكشاف الله لخليقته، بعدما سقطت من معرفته. “كلّم الله آباءنا من قديم الزمان بلسان الأنبياء مرّات كثيرة وبمختلف الوسائل، ولكنّه في هذه الأيّام الأخيرة، كلّمنا بابنه الذي جعله وارثاً لكلّ شيء وبه خلق العالم”(عب1/1).
الكتاب المقدَّس، إذاً، أهمّ وثيقة مكتوبة عن عمل الله مع البشر حتّى إتمام خلاصه وانطلاق كنيسته. شارك في كتابة هذه الوثيقة كلّ من الله والإنسان. الله أوحى والإنسان نقل الوحي بلغة بشريّة. ليس من تنزيل حرفيّ عند المسيحيّين. هم يؤمنون بما يسمّونه المؤازرة syneryia ما بين الله والإنسان. ولذلك يجب ألّا يتعاطوا مع الكتاب المقدَّس حرفيّاً، بل روحيّاً. يجب ألّا يقفوا عند الأحداث تاريخيّاً، بل عند ما أراد الله قوله من خلال الأحداث التاريخيّة. هنا لبّ الموضوع، وهو ليس سهلاً قطّ.
يوحي الله للكاتب، نبيّاً أو رسولاً أو بشيراً، بما يريد إيصاله، ويترك له حريّة اختيار التعبير والأسلوب من أجل إيصال وحيه هذا. وكثيراً ما استُخدِم التاريخ أداةً عمليّةً في إيصال تعليمه.
ولنأخذ مَثَلاً:
يريد الله أن نعرف أنّه الخالق، وأنّ الخلق تمّ لأنّه أراده، وتمّ بكلمةٍ منه. فوجد كاتب سفر التكوين أنّ إيراد هذه العناصر اللاهوتيّة ضمن سياق قصّة مألوفة ومستساغة، عند شعوب العهد القديم، يوصل هذا التعليم. فكتب الفصل الأول من السفر شعراً وأدباً. ويقول علماء الكتاب المقدَّس إنّه نشيد عباديّ، تسبيحيّ، موزون موسيقيّاً، يمجِّد الله على خليقته وعمله الخلّاق، ويتضمّن لاهوت الخلق.
في المفهوم المسيحي للوحي الكتابي، يكلّم الله البشر بلغتهم وبما يفهمونه. ينزل إلى مستواهم ليرفعهم إليْه. إنّه المربّي، والمثال، والقدوة بامتياز. إنْ تحدثتَ مع آخرين بما لا يفهمونه، وبلغةٍ لا يعرفونها، أو بمستوى أرفع من مستواهم، فكيف سيفهمون ما تقوله، وتالياً، كيف سيقبلونه؟
لنأخذ مثالاً آخر، ولكن من العهد الجديد، لأنّه أكثر قرباً إلى مفاهيمنا. تكلّم المسيح، إلى جانب عظات مباشرة، بأمثال كثيرة. لماذا؟ لأنّ المثل يعطي مفهوماً أوسع من الكلام المباشر، خاصّة عندما يتعلّق الأمر بما يتجاوز حرفيّة القانون؛ افعل كذا أو لا تفعل كذا. جميع أمثال المسيح من واقع زراعي أو تجاري، من الزمن الذي عاشه في فلسطين، في القرن الأول الميلادي. لماذا لم يتكلّم بغير هذا؟ أمَا كان قادراً؟ بالتأكيد له كلّ القدرة. ولكن لأنّه يريد أن يوصل الخلاص إلى مستمعيه، فقد كلّمهم بما يساعدهم على وصول رسالته إليْهم.
ليس المَثَل هو الهدف، بل المضمون الذي يحمله.
كثيرون يعتبرون ما ورد في الكتاب المقدَّس حرفيّاً، وهذا عين الخطأ. الكتاب كتاب لاهوت، بمعنى أنّه كتاب ديني، يخبرنا عن علاقتنا بالله وما إليْها، وليس هدفه إعطاء علوم، ونظريّات علميّة، وتفسيرات لظواهر الطبيعة، وما إلى ذلك. وإن كان يستخدم علوم العصر الذي كُتِب فيه من أجل إيصال التعليم المراد إيصاله. هذا، كلّه، لبوسٌ للكلمة الإلهيّة، فرضه زمن كتابتها بشريّاً.
كلّنا يعلم أنّ الله روح، ولا شكل بشرياً له. “الله روح” (يو4/24)، ومع ذلك، يقول لنا الكتاب إنّه، له المجد، جَبَلَ تراباً بيديه، ونفخ فيه نسمة حياة، ليخلق الإنسان (تك 2/7).
ما عرفت ثقافات الشرق الأوسط القديم الفلسفة المجرّدة المحض. هذه كانت في الأوساط المثقّفة، أي في أوساط النخبة المتأثرة بالمدارس الفكريّة اليونانيّة آنذاك. فكان لا بدّ من التواصل مع الناس بمفاهيمهم المعيشيّة اليوميّة. فإن أردت أن تربّي وتعلِّم، وجبَ عليك أن تستخدم الوسائل المتوفرة في زمنك، لكي تسهِّل وصول فكرتك. ولك الحقّ، كمعلِّم، أن تستخدم، كوسائل إيضاح، الصورَ والأمثلةَ والحكايات التي تخدم تعليمك وتربيتك. ألا يُختَزَن تراثنا الأخلاقي، وأمثال شعوبنا الشرقيّة، في قصصٍ، معظمها غير واقعي ولا تاريخي؟ ولكنّها ألم تحفظ العبرة والحكمة؟ مَنْ من الأطفال يصدِّق أنّ ليلى دخلت في بطن الذئب سالمةً، وخرجت من بطنه حيّةً؟ ومع ذلك فالصغار والكبار يحبّون القصة، ويقفون عند العبرة التي تحملها.
لا يمكن للإنسان أن يحيا دون الأدب والشعر والتصوير والغناء والفن والخيال. هذه أوعية تحضن المعرفة. من تصدِّق كلام حبيبها، عندما يقول لها: أنت قمر؟ ومن لا تبتهج ولا تُسَرّ بهذا الكلام؟ ومن لا تعرف المقصود به؟
خلاصة الأمر، لا يفصل الإيمان المسيحي الحياة الدينيّة أو الروحيّة عن الحياة المعاشة يوميّاً. لا يريدنا الله أن نهجر العالم بل أن نغيّره. ولا يستعمل لغةً خاصّة، عليك أن تتعلّمها حتّى تفهم كلامه. إنّه أب ومعلّم، مربٍّ ومؤدِّب، يتوسّل كلّ ما هو في أيدينا، حتى يوصل لنا هديته الأثمن. هو البداية والنهاية.
فلا نأسرنَّ الله في زمن محدّد، ولا ننسيّنَّ كلمته الإلهيّة، ونقف عند المركبة التي حملتها لنا!