من يزرع شحيحاً شحيحاً يحصد – المطران باسيليوس (منصور)
من يزرع شحيحاً شحيحاً يحصد، ومن يزرع بالبركات بالبركات يحصد أيضاً
الإخوة والأبناء الأحباء،
هذا كلام ينبع من عمق حياتنا في هذا الشرق، وهو مستَمدٌ من حياتنا الزراعية وملاحظتها بإعطاء الغلال. وهو قول صادق في كل نواحي الحياة الطبيعيّة التي يحياها الإنسان، الزراعية والصناعية والثقافية والعلمية إذ تكون النتيجة على قدر الإجتهاد، إما سلباً أو إيجاباً، فمن جدَّ وجد، ومن سار على الدرب وصل.
ولكن الرسول بولص يقول أخذاً عن الكتاب المقدَّس العهد القديم أن الله يوصي المؤمن ويقول: لاتكمَّ ثوراً دارساً، ثم يعقِّب، هل الله تهمُّه الثيران، لقد قال هذا لأجلنا، خادم “المذبح من المذبح يأكل”. هنا كلام الرسول بولص يعني بالدرجة الأولى الحياة مع المسيح، ويعتبر أن الإنسان ميادين وبساتين روحية هو. فبقدر ما يجاهد ويتعب ويصبر بقدر ما تكون ثماره عظيمة ووفيرة. إذاً الرسول بولص يهتم بالحياة الروحية للمؤمنين المسيحيين، ويستخدم مثل الزرع والقطاف ووفرة الأثمار أو قلتها لتتشابه الحالة الزراعية مع حالتنا نحن البشر في عيشنا مع الله.
فلكي يزرع الإنسان في أرضه لا بدَّ له من عدّة مراحل يمرُّ بها إذ يهيء الأرض والثمار وترتيب المراحل إنتظاراً لمجيء المطر في أرض، من المؤكد انها تحصل على مائها في مواسمه وأوقاته.
وأوّل مرحلة من مراحل الزراعة هو القرار وشحذ الهمّة للعمل ثم تهيئة الأرض، وبعد ذلك إختيار البذار أو الغراس ثم زرعها بالطرق العلمية المختبرة الناجحة ثم متابعة هذه البذور أو الغراس في نموِّها وإثمارها.
فمن يريد العيش مع المسيح لا بد أن يشحذ همته ويتخذ قراره ويطلق العنان لعزيمته للتجارب مع المراحل الأولى من العمل الروحي، وهي تهيئة الإنسان لذاته والإبتعاد عن لذاته ومراضاته بحسب هذا العالم، وهو ما نسميه في الحياة الروحية المرحلة الأولى التطهُّر فيها يستطيع الإنسان وينجح بأن يكون حراً من كل ما يكبِّل إرادته أي يصبح صالحاً لإستقبال النعم الإلهية والتي تكون قد ساعدته على تجاوز تلك المرحلة بنجاح بحسب قول النبي: “إلقِ على الرب همك وهو يعولك” إذ صار الإنسان أرضاً جاهزة لإستقبال الأنوار الإلهية في ذاته فيرتفع عن التحدُّث بالخطايا، مع أنَّهُ يزداد تواضعاً، ولكنه يتحدَّث دائماً عن عظمة الله ومحبته وجلاله وكرمه إلخ، وينسى ما في هذا العالم مع أنَّه يبقيه في صلواته ويوسع محبته حتى تصبح تضرُعاته لأجل جميع الناس ونجاحهم وهذه هي البذار والغراس الجيّدة التي يضعها في أرضه فينتقل من مرحلة الأنوار الى مرحلة التأله، أي مرحلة الحصاد وجني الغلال، مع أنَّه يكون قد تذوّق من بواكيرها في المراحل الأولى، التطهر والإستنارة، ولكن في المرحلة الثالثة يصبح الإنسان صديقاً لله يكلمه وجهاً لوجه كما كلَّم صفيِّه موسى. وتصبح العملية رحلات متكررّة بين الله والإنسان. ويؤخذ الإنسان بين فينة وأخرى بالإنخطاف لساعات كاملة قد تتجاوز اليوم ويصبح الله هو طعام وشراب مثل هذا الإنسان، وهذا ما ورد في سفر الرؤيا عن الذين استحقوا الحضور في الحضرة الإلهية.
ولكن هذه المراحل كلها تحتاج دائماً لعملية الإحتراس. نحن نقول في أمثالنا الشعبية، المال السايب بيعلم الناس الحرام، يعني ماذا ينتفع الذي يزرع إذا لم يحرس حقوله ويحميها من كل مضرَّة أو مرض أو إعتلال. وأن يتفقده دائماً. نعم هكذا الإنسان في حياته الروحيّة إذا لم يكن يقظاً جداً لا يستطيع أن يحمي محاصيله وثماره الروحية، وهذا ما يؤكد عليه القديس باييسيوس الآثوسي بقوله إذا لم يحرس الإنسان أتعابه الروحية تسرقها الأرواح الشريرة ويحترس الإنسان عندما يبقى يقظاً لا يكل ولا يمل عن متابعة حياته وعلاقته مع الله والتأمل فيها، وكثيراً ما يلقي الله بذار النعمة في حياتنا من غير استحقاق فهل نحفظها ونرتقي الى متوجباتها أم نخلط الزؤان مع الحنطة كما ينبهنا السيد له المجد.
فمن يزرع بالبركات ليس الذي يزرع بالكميات فقط بل وبالنوعيات أيضاً.
فمهما زرعنا بذوراً أو غراساً فاسدة أو مريضة فماذا نستفيد؟ ألا يخرج الحصاد ضعيفاً هزيلاً لا يساوي التعب. نعم سيكون ذلك في حياتنا الروحية أيضاً يجب أن نجاهد جهاداً حسناً طاهراً نقياً لأنه لا خلطة للمسيح مع بليعال، ولا للظلمة مع النور. وكذلك الزرع بالبركات يكون بحسب الأدوات فمن يزرع بالطرق البدائية سيحصد أقل مما يتعب، ومن يستعمل الطرق الحديثة سينتج كثيراً أكثر مما يتعب جسدياً. هكذا في الحياة الروحية العمل في نطاق الإيمان الطاهر غي المعاب وبإرشاد أب روحي، والمثابرة على مطالعة الكتب المقدَّسة، والمناولة من الجسد والدم الطاهرين والذكر الدائم لاسم ربنا يسوع المسيح. وعدم مخالطة الأشرار والمستهترين والجلوس في مجالسهم. هذه كلها تساعد الإنسان على السير بخطى حثيثة ومتقدمة في الحياة الروحية والوصول الى مرحلة الإستنارة وبعدها التأله.
رجائي الى الله أن يهبنا جميعاً روح الحكمة والفهم لتميّز النافع من الضار بالنسبة لحياتنا الروحية والجسديّة لكي نحصل على الرضى الإلهي فنجني من كنوز نعمته ما لا يستطيع عقل أن يصف ولا أن يخطر على قلبٍ، وما لم تره عين، فنتمجَّد بالمجد الذي جعله لأحبائه قبل إنشاء العالم، ونمجدُه نحن بدورنا في أعمالنا وفي حياتنا كافة. فلتدخل الحياة الروحية الى أشخاصنا وبيوتنا لنحصل على الفرح والسلام والثبات، وفقكم الله بنعمته، وأعطاكم حصاداً وفيراً في كل نواحي الخير والتقدم آمين.
نشرة البشارة
18 تشرين الأول 2015