ثقافة الصلاة – المطران سابا (اسبر)
وهل للصلاة ثقافة؟ الجواب نعم. فالإنسان يتصرّف وفقاً لعقلية معينة، تصوغها القناعات والمبادئ والقيم التي اقتبلها طريقاً لحياته. كلّ إنسان، بوعي أو بغير وعي، يتبنّى أسلوباً معيناً ونظرة معينة وفكراً معيناً وسلوكاً معيناً، في تسيير شؤونه. هذه، مجتمعةً، تشكّل ثقافته الخاصة، التي تصبغ حياته بكلّيتها. فالمصلّي، على سبيل المثال، يحمل فرحه وحزنه، ووجعه وصحته، معاناته، سلبيّة كانت أم إيجابيّة، وكلّما يخصّ شخصه وبيئته ومجتمعه، ويقدّمه لله أولاً، وقبل أيّ شخص آخر. ومن ثمّ يستلهم التصرّف، معتمداً على معونة ربّه ونعمته. أمّا غير المصلّي، فيبقى في نطاق السؤال والشك والبحث والتخبّط؛ مرجعه ذاته فقط أو الذين استأمنهم على داخله فقط، وهؤلاء، على الأغلب، مشابهون له، أي قد تكون ذواتهم هي مرجعيتهم الوحيدة. من يكن الله مرجعه، لا تكن ثقافته كالذي يحيا من دون الله.
الإنسان منتشٍ بذاته، وأناه متضخمة جداً، خاصّة في هذا الزمن. ولذلك، فهو يحتاج إلى التواضع كي يدخل في حياة الصلاة. إن كانت صلاته صادقة، يشعر، كالعشار، بصغره أمام رهبة الله وعظمته، فيزداد تواضعاً. أما الذي لا يعرف الصلاة كما عرفها العشار فتأكله كبرياؤه الداخلية، كالفرّيسي. إن كنت متواضعاً تعرف مدى أهميّة الصلاة بالنسبة لك وتكتسب روحها، وتالياً، تعيش المحبّة، وتجسّدها. آنذاك، تطلب الصلاة، في وقتها وفي غير وقتها، لأنّها قضية حياة بالنسبة لك. بهذا المعنى، قال القديس يوحنا الذهبي الفم :”إن كنت لا تصلّي إلا حينما تصلّي، فأنت لا تصلّي أبداً”. أي إن قصرتَ صلاتك على أوقات الصلاة المحدّدة، ولم تصرْ عندك حالةً دائمة، فأنت ما زلت في نطاق الواجب، ولم تتخطَّه إلى نطاق الحبّ. بهذا المعنى أيضاً، جاء في المزمور “أما أنا فصلاة”.
يدرك الإنسان عجزه في خضمّ الآلام والشدائد، فيتّجه إلى الله، ويتضرّع من أجل نفسه والآخرين. وإن كان قد بلغ، أو هو في طريقه إلى أن تصير الصلاة ثقافته حقاً، فهو يقدّم لله يومياً كلّ الرازحين تحت وطأة مختلف الآلام، خاصّة تلك التي يعانيها وإيّاهم. أمّا الذي لم يختبر الصلاة واحةً للأمان، فيتساءل عن سبب الألم، ويشكّ في العناية الإلهية، ويتخبّط في التذمر والتشكّي والتحسّر. هذه حال الإنسان في الحروب بخاصّة. يصرخ: أين الله؟ ولماذا لا يفعل كذا وكذا؟ ينتظر الإنسان من الله عملاً عجائبياً. ذلك أنّه، تحت وطأة الوجع والخوف، يريد حلولاً سريعة وغير مكلفة. يطلب النجاة، والأمان، والفرج، والعزاء…
لسان حال الكثرة اليوم هي المعاناة من الحرب الدائرة، والحاجات الناجمة عنها. الكل يريد أن يأخذ، بينما المستعدون للعطاء قلائل. لماذا ؟ لأنّنا لم نعتد أن نذكر القريب، أي الآخرين، في صلاتنا بشكل منتظم وملتزم. نقول في أحاديثنا: الله يفرجها على الجميع،لكنّه يبقى مجرّد كلام، تنفيساً عن قلق، عن غضب، عن يأس، سمّوه ما شئتم، لكن، طالما أنّه لا يخرج من قلب موجوع على الآخرين، كما هو موجوع على ذاته ، فلن يتجسّد في أفعال، ولن يصير صلاة حقّة، بل كلام اعتدناه في بيئتنا الشرقية التي تختزن التعاطف عفوياً.
لا يرى الكثيرون شيئاً عندهم، يساهمون فيه من أجل تلطيف آثار الكوارث؛ كونهم ينطلقون، أساساً، ممّا يعتبرونه قدرتهم وقوتهم وملكهم. هم المنطلق لا الله، أمّا عشير الله فيعرف أنّه يستطيع أن يقدّم الكثير، لا لأنّه يملك الكثير، بل لأنّ نعمة الله تملأ قلبه الكبير، المحب والمتشبه بالله.
كثيراً ما نسمع تبريرات، كالتالية: ماذا عندنا لنقدّم والحاجات هائلة؟ ماذا بوسعنا أن نفعل، أمام حجم المعاناة الفائق التصور؟ والسؤال الحقّ هو: لماذا لا يشعر المؤمنون بأنّهم أغنياء بالروح، وأنّهم قادرون، بما عندهم من حبّ، على معانقة الكون كلّه؟ عندما تواظب على تقديم المتألّمين لله في صلاتك يومياً، ذاكراً إيّاهم بأسمائهم، سوف تعجنك الصلاة، وتختبر، بالنعمة الإلهية، حبّاً أكثر لهم، وغفراناً حقيقياً للمسيئين منهم إليك، وسبلاً واقعية تساعدك على التخفيف من آلامهم.
قد لا أملك، إن فتحت كفيَّ أمام الله سوى الغبار، لكني مؤمن بأنّ الله قادر على تحويله إلى ذهب. تقول إحدى الترانيم الميلادية (كتبها الأب منصور لبكي): “سكب الملوك أمام مهدك كل مال مستعار، وبسطت كفي حينما فاجأتها ملأى غبار، جمعته كوماً عند قدميك من إثم وعار، ووقفت:هاكَ يديَّ فارغتين، ربي بانتظار”؛ فافتح يديك لكي يملأهما من عطاياه.
الزم نفسك بذكر الآخرين بأسمائهم في صلاتك اليومية. درّب ذاتك على استذكار من قابلتهم خلال اليوم، واذكرهم بأسمائهم أمام الربّ، في صلاتك المسائية. واظب على ذكر البشر، الذين يرزحون تحت أنواع مختلفة من المشاكل: حرب، فيضان، زلزال، بركان…ضياع روحي، انهيار أخلاقي، انحراف، مشاكل عائلية، صحيّة، …إلخ. وسوف ترى أنّك ستعانق الكون بروحك، كما عانقه مسيحك قبلك. صلِّ بدموع صادقة، ولا بد أن يُريك الله فعل صلاتك. دَعِ الصلاة تغيّرك. إنْ بقيت، بعد سنوات كما كنت قبلها، فاعلم أنّ الصلاة لم تصر ثقافتك بعد.
أمّا على صعيد الجماعة المسيحية، فاجتمع وإخوتك للصلاة من أجل سلام البلد والنفوس. أقِمْ وإيّاهم ابتهالات من أجل أمر محدّد. أقيموا السهرانيات في الرعايا، وأَدخِلوا عليها صلاة يسوع. فليشجّع المؤمنون الكهنة، وكذلك الكهنة المؤمنين، على الدعوة إلى صلوات مخصّصة لأيام الشدائد. وليصلِّ الجميع، بقلب واحد وعزم واحد، صلاة المسبحة، استجلاباً لرحمة الله للعالم. يصلّي تلاميذ القديس سلوان الآثوسي، جماعياً، في ديرهم، في بريطانيا، حتّى اليوم “يا ربي يسوع المسيح ارحمنا وارحم عالمك”.
حينما كنت كاهناً، اعتدتُ، وبعض الإخوة، على أن نفتح كنيسة الرعية يومياً، في المساء، لكي نقيم صلاة النوم. تكاد تمتلئ، أحياناً، لكنّها لم تنقطع من المؤمنين يوماً؛ حتّى في الأيام التي أضطر فيها إلى السفر أو التغيّب. الناس بحاجة إلى مناخ الصلاة، وهذا واجب الكنيسة، إكليروساً ومؤمنين. فلنهيّء جو الصلاة، ولنحتفل ببهاء خدمنا الليتورجية، ولنقدّم العالم، وما فيه من متألّمين، في صلواتنا. لماذا لا نجعل بيوتنا كنائس؟
قيل للقديس سلوان الآثوسي، مرة، إن الرهبان مضطربون بسبب الاضطهاد الشيوعي للكنيسة. فأجاب: “أنا أيضًا اضطربت في البدء كثيرًا لما يجري هناك. ولكنّي بعد كثير من الصّلاة والتّضرع جاءني هذا الفكر: “إنّ الله يحبّ الجميع بما يفوق الوصف. هو ضابط الأوقات والأحداث وكلّ شيء وللجميع. وهو سمح بهذا الاضطهاد من أجل خير ما في المستقبل”. أنا لا أستطيع أن أفهم ذلك ولا أستطيع إيقافه. ولست أملك سوى الصّلاة والمحبّة. ونصح إخوته الرهبان بهما.
هذه هي ثقافة الصلاة!!