في التّجارب – الأرشمندريت يونان (الصوري)
“اِسْهَرُوا وَصَلُّوا لِئَلاَّ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ. أَمَّا الرُّوحُ فَنَشِيطٌ وَأَمَّا الْجَسَدُ فَضَعِيفٌ” (متّى 26: 41 ومرقس 14: 38).
التّجربة، في العمق، هي هذا الميل والانجذاب الدّاخليّ نحو الخطيئة، هي اجتذاب الخطيئة الإنسان إليها. أسبابها متعدِّدة، منها الصعوبات الخارجيّة الّتي تجعل الإنسان في أزمة مع إيمانه وإلهه، وأصعبها حركة الأهواء الدّاخليّة في القلب الّتي تُدمِّر الإنسان من الداخل، أوَّلًا كونها تستأسره لذاته… وهذه هي التّجربة إنّها “الأنا”…
في استعمال الإنجيليّين وأسفار العهد الجديد، لا تعني كلمة “جسد” باليونانيّة “sa,rx” (sarx) الإنسان ككائن مميَّز عن الحيوان، أي ككائن بشريَ-إلهيَ، بل تعني “اللّحم والدّم” أي الطبيعة البيولوجيّة للإنسان، بالأكثر، الخاضعة لأحكام ونواميس مشتركة مع طبيعة الحيوان البيولوجيّة، هذا من ناحية. من ناحية أخرى، كلمة جسد (sa,rx) ترتبط بوجه الإنسان “التّرابيّ”الّذي هو مجبول من أديم هذا العالم عبر طبيعة هذا العالم السّاقِط، أي هي تشير كتابيًّا إلى الإنسان الخاضع لميول وغرائز الجسد المشترَكَة مع الحيوان، وإلى كلّ ما يبعده عن الله من أنانية وكبرياء وحسد وحبّ للمال والسّلطة، إلخ.
بهذا المعنى “أمّا الجسد فضعيف” كون الإنسان خاضِع نفسيًّا وجسديًّا لترهيب وترغيب العالم المُسَيطِر عليه الشّرّير.
* * *
أمّا “الرّوح” باليونانيّة “pneu/ma” (pneuma) فهي تشير بشكل أوّلي إلى روح الرّبّ، ومن ثمّ إلى النّفس المتّحدة والمُحَرَّكة بروح الله. من هنا “أمّا الرّوح فنشيط”، أي أن الإنسان المُستَسلم لروح الله يكون مُتحرِّكًا بهذا الرّوح الحيّ والمعطي الحياة. فحيث روح الله هناك تكون الحياة الحقّة من الله…
* * *
الجهاد الرّوحي هو هذا: “اِسهروا وصَلُّوا”. الحياة هي هذه الحركة المستمرَّة نحو الله في اليقظة والطّاعة.
السّهر هو اليقظة، أي التنبّه لحركة القلب من خلال رصد الأفكار الّتي تساوره من الخارج ومن الدّاخِل. فالإنسان مُعرَّض لتلقّي حركة العالم الخارجيّ من خلال الحواس الجسديّة والأحداث اليوميّة. كما أنّه يمتلك في داخله حركة أهوائيّة متولّدة عن البرمجة الّتي تلقّاها خلال حياته منذ الحبل به في بطن أمّه وخلال تربيته ومن خلال عائلته وبيئته الّتي ترعرع فيها. يقول الرّبّ يسوع: “لأنّهُ مِنَ الداخل، مِن قُلُوبِ النّاس، تَخرجُ الأفكارُ الشرّيرة: زِنًى، فِسْقٌ، قَتلٌ، سَرِقةٌ، طَمَعٌ، خُبثٌ، مَكْرٌ، عَهارةٌ، عينٌ شرّيرة، تجديفٌ،كبرياء، جَهل” (مرقس 7: 21 – 22؛ أنظر أيضًا: متّى 15: 19).
أمّا الطَّاعة فهي الإصغاء لكلمة الله في الصّلاة والسّعي بنعمة الله إلى عيشها. بطاعة الكلمة الإلهيّة يصير السّهر على القلب وبها يتنقّى. لأنّ غسل القلب يصير بسماع الكلمة الإلهيّة وحفظها في القلب وتردادها بالشّفاه، إلى أن تصير الكلمة الإلهيّة هي صلاة الله في الإنسان بروح الله في القلب. هذه الصّلاة بنور النّعمة الإلهيّة غير المخلوقة تكشف للإنسان حقيقة أعماقه المُظلمة بالخطيئة. هنا تبدأ مسيرة التّنقية، أي الحرب الرّوحيّة أو الجهاد ضدّ التّجارب. وأصعب التّجارب وأقساها هي حرب الإنسان مع أهوائه الّتي باتت، بعد السّقوط، تشكّل طبيعةً ثانيةً تطغى على الطّبيعة الأولى المخلوقة من الله “حسنة جدًّا”.
من هنا، يمكننا القول إنّ الإنسانَ لا يستطيع أن يخلص مِن دون تجارب، لأنّه لا يستطيع أن يتنقّى مِن دون أن يحارِبَ خوفَهُ من الموت المولِّد له الأنانية والكبرياء الغبيّة، المستَحوِذَين عليه بالشّهوات: “شهوة الجسد، شهوة العين، وتعظّم المعيشة” (1يو 2: 16)…
ومن له أذنان للسّمع فليسمع!
نشرة الكرمة
01 تشرين الثاني 2015