نحن والموضوعية – المطران سابا (اسبر)
إن كنتَ تفصل بين أهوائك وانفعالاتك ومواقفك الشخصيّة تجاه أحدهم، فرداً كان أم جماعة، وبين الأمر موضوع النقاش، فأنت موضوعيّ. تتفترض الموضوعيّة مقاربةَ أمرٍ ما بنزاهة وتجرّد، بغية الوصول إلى الحقيقة. لا مجال لإدخال مواقف مسبقة، أو لإسباغ تفسير شخصيّ معيّن، أو للتعاطي مع موضوع النقاش من زاوية مصلحة، أو انتفاع، أو مكسب، آني أم مستقبلي. يقارب الموضوعيّ الأمر في جوهره، في محيطه وبيئته. هو يدرس الانعكاسات بحدّ ذاتها، وليس انطلاقاً ممّن يقوم بها.
إن بحثتَ في الأخلاق، على سبيل المثال، تنظر فيها، هي، وليس في الأشخاص الذين يعصونها أو ينحرفون عنها. عندما تتوصل إلى قيمة أخلاقية ما، يمكنك أن ترى إلى درجة تطبيقها أو مخالفتها، في الواقع، وما الأسباب التي تؤدي إلى هذا وذاك، وتالياً إلى السبل الممكن اتّباعها أو ابتكارها، بغية الوصول إلى المستوى الأخلاقي المطلوب، ومساعدة الناس على بلوغه، وتذليل العقبات التي تعترضهم.
الموضوعيّة، بهذا المعنى، أيّ بإقصاء البعد الشخصي، فيَّ أو في الآخرين، نادرة الوجود في مجتمعنا عموماً، لئلا نقول غير موجودة. والسؤال هو إن كانت نادرة في المجتمع، فلماذا هي كذلك في الجماعة الكنسية؟
المفروض في المسيحي أن يكون في سعي دائم إلى تطهير ذاته، ممّا يستوجب يقظة داخليّة، ومراقبة للذات متواصلة؛ كما أنّه في سعي دائم إلى عيش وصيّة الربّ الأخيرة: “وهذا ما أوصيكم به: أن يحبّ بعضكم بعضاً”(يو15/17). وهذا النمط من العيش، ودون نقاش، يحتّم أن تكون نواياه تجاه الآخر، أياً يكن، صافية ، نقيّة، شفافة، مُشبعة بالمحبّة. هذا لا يعني أنّك ترى الزاني عفيفاً، والسارق أميناً، والمترفِّع متواضعاً… لا بل تعرفه كما هو على حقيقته، لكنّك ترجو خلاصه، وتساهم فيه بالقدر المتاح لك. وفي الوقت ذاته تحفظ نفسك من الوقوع في خديعة السذاجة والغباء بحجّة المحبّة.
لكن موضوعيّتك تجعلك غير معارِض لفكرة أو مقولة أو اقتراح ما، فقط لأنّها قد أتت منه. لا يتصرّف الإنسان الشرقي عموماً هكذا، لأنّه لم تكن تربيته مؤسَّسة على الفصل بين الأمور، وعلى التمييز ما بين المبدأ والتطبيق. يضاف إلى ذلك أنّه لم ينشأ على تربية روحية أصيلة. فتراه يخلط ما بين الخاطئ والخطيئة، والمرض والمريض، فيؤذي نفسه، ويشوّه خلاصه، ويجعل ترسيخ الشقاق رسالته الأساس!
هذا كلّه يعمله وهو يعتقد أنّه بطل الدفاع عن الحقيقة، واستقامة الرأي، والإيمان المهدَّد. أمّا هو، ففي الواقع، يدافع عن أهوائه وأفكاره وجماعته وأصحابه. وإن استمر المرء على هذا النهج، فقد يصل إلى مرحلة يعتقد فيها، بصدق، أنّه “ملاك نور”، بينما يكون، في الحقيقة، “شيطاناً ظاهراً بهيئة ملاك نوراني”. إن كان الشيطان يظهر بهيئة ملاك نور لكي يضلّ المؤمنين، كما قال الرسول العظيم بولس، فإنّه يوهم غير الموضوعي بأنّه ملاك نور، لكي يستعمله أداة داخلية، ولا أنجح، من أجل زرع الشقاق داخل الكنيسة.
ما نشهده من سجالات بين هذا الطرف وذاك، في الجماعة الكنسيّة، على ما فيها من غياب للتهذيب الأدبي، لئلا نقول الإنجيلي، يدل على انتفاء الموضوعية من أوساطنا، وعلى أن مؤمنين كثراً يعيشون إيمانهم لا على معرفة الذات، ولا على تطويعها لكي تصير، أكثر فأكثر، على صورة الإنجيل وتعاليمه. السائد أنّ “بولس وبطرس وأبلوس”(1كو1/12) لا يزالان أهمّ من المسيح بكثير. المسيح هو الوحيد المغيَّب، فعلياً، من قلوب الكثيرين. يستبدلونه بمفكّر، بلاهوتي، بأب روحي، بتنظيم،… لك أن تسمّي ماشئت من البدائل. لكن، ما الفائدة منها كلّها إذا كانت تطرد صاحب البيت من بيته لكي تحلّ محله؟
ماذا يعني أن يرفض بعضهم تعليماً أو اقتراحاً ما، لأنّه أتى من جهة ما، ويقبله ويهلّل له إن أتى من جهة أخرى؟!! وإن نزل مقال إلكتروني ما في الساعة كذا، وبدأت الردود عليه في الساعة كذا ودقيقة أو اثنتين، ألا يعني أنّ السجال ليس على مضمون المقال، بقدر ما هو هجوم على شخص الكاتب، وصراع بين متقاتلين جعلوا الساحة الإلكترونية ساحة لعراكهم؟!! أترانا وصلنا إلى هذا الدرك الروحي والأخلاقي والثقافي، ونحن لا ندري؟!! أين هي روحانية إنجيلنا؟ وأين هو التمثّل بوداعة مسيحنا وحكمته؟ ألا يعني واقع رثّ كهذا أنّ أي شيء له أهميّة تفوق أهميّة التمثل اليومي بربّنا وتفاصيل إنجيله؟
يميّز المسيحي الموضوعي، في داخله، بين ما يعود إلى الإنسان الساقط، وما يسعى إليه، مسيحيّاً، لكي يبلغ الإنسان الجديد. هل يبدو أنّ جهاداً روحياً كهذا لا يكفيه تعليم الله لكي يتجسّد بشكل صحيح، بل يحتاج إلى ثقافة إنسانية حضارية ترفده؟ لست أدري، لكنّني بتّ واثقاً من أنّ أهواءنا، المُعابة وغير المُعابة، قد تعيق تجسّد الإنجيل في سلوكنا وتمنعه، فنبقى غير مدركين لها. لماذا؟
هل نخطئ تجاه المحبّة فقط لأنّنا لا نحبّ؟ أم أنّنا كثيراً ما نخطئ لأنّنا لا نعرف كيف نترجمها عملياً في شكلها الصحيح. قد يجيب قائل إنّ المحبّة الحقّة تتجسّد دونما جهد. قد يكون الأمر هكذا ولكن ليس على الأرض بل في السماء. نحن مازلنا على الأرض.
تقوم المسيحية على تنقية الذات والطهارة الداخلية، مايتطلّب توبة مستمرة. والتوبة في المفهوم المسيحي لا تقف عند حدود الندم والتأسف، بل تبدأ منهما متوجهة نحو تغيير الذات المتواصل. يعي المسيحي الحقّ خطاياه وضعفاته ومواطن هشاشته الروحية، ويجاهد بإرشاد الإنجيل وأب الاعتراف لكي يتجاوزها ويستبدلها بما يتناسب وإيمانه، وبما يليق وصورة مسيحه. أن تبقى غضوباً، وتموت غضوباً، يعني أنك لم تجاهد ولم تدع التوبة تلمس قلبك! وقس على باقي الرذائل. لا تنسَ يا أخي أن الإنجيل بدأ بالتوبة “توبوا فقد اقترب ملكوت السموات”(مت3/2؛4/17).
تقدّم حياتك وتستشهد ولا تخون الإيمان، لكنّك تدرك في الوقت عينه أنّ ربّ الكنيسة هو من يحفظها، وإن كلّفك بمهمة في سبيل حفظها، فإنك تقوم بها بكلّ فرح وتواضع وانسحاق. أمّا إذا نشرت العداوة والكراهية، وكان الغضب والنقمة ما يسيّرك، فاعلم أنك صرت أداة في يد الشيطان.
رجاءً لا تدعونا نصدِّق بأنّ الإنجيل لا يكفينا لنصير إنجيليين؛ رجاءً لا تؤكدوا لنا أنّ الحضارة الإنسانية لازمة لبلوغ مستوى الإنجيل