اللاهوت المخبوء – المطران سابا (اسبر)
ليس الكتاب المقدّس كتاب تاريخ. إنّه كتاب لاهوت؛ يتكلّم عن عمل الله مع البشر. والله يعمل في واقع البشر وفي حياتهم. وعندما يقرأ المؤمنون، ويعون، ما فعله الله معهم، فهم يقرأون تاريخهم انطلاقاً من هذا الفعل، إذ ما من حياة للمؤمن من دون الله. بهذا المعنى نقارب البعد التاريخي للكتاب المقدّس.
تهتم كتب التاريخ بالتأريخ، أي بتسجيل الأحداث بالتفصيل، والتدقيق في معرفة زمن حدوثها الأقرب إلى الصحّة، وجمع الروايات المتعدّدة للحدث الواحد، ومقارنتها وتمحيصها، بغية الوصول إلى معرفة ما قد حدث، ومتى، وكيف، بأكبر دقة ممكنة. بهذا المعنى، ليس الكتاب المقدّس كتاب تاريخ، وإن احتوى على معلومات تفيد في التأريخ.
مَثَلُ مسيرة شعب العهد القديم، وتالياً كلّ مؤمن، كمَثَلِ ذلك الفقير، الذي استفاق على ضرورة إجراء عملية جراحية مكلفة لابنه الوحيد، وهو لا يملك قرشاً واحداً. فتوجّه إلى ربّه، رافعاً صلاته النابعة من قلب حزين ومكروب، واضعاً معاناته بين يديه. وإذ بحوالة مالية تصله، في اليوم التالي، من أخيه المغترب، الذي لم يتفقّده منذ سنوات، فيفتحها ويجد أنّ كميّة المال المُرسَل هو ما يحتاجه بالضبط. خبرة هذا الإنسان، إن كان مؤمناً حقاً، تجعله يرى في ما فعله الله له أهميةً تفوق مرض ابنه. لا بل يصير مرض ابنه وسيلة لإعلان عمل الله.
لا يرى المؤمن في حدث كهذا، مصادفة، بل رعاية، ورعاية مسبقة له. وعندما يحدّث الآخرين بما صار معه، فهو يحدّث، بالأحرى، عن عمل الله وتدخّله في حياته. وما أكثر الأحداث التي يخاطبنا الله بواسطتها، فيتدخّل في حياتنا عبرها.
يقرأ المؤمن ماضيه، أي تاريخه، على ضوء حضور الله في حياته ومرافقته، له المجد، له. وإلا فهو يتعامى عن أفعال الله. في سرده لعمل الله هذا، قد يبالغ مرّة، وقد يخطئ القراءة مرّة، وقد يُلبس الله ثقافةً بشرية مرّة أخرى. هكذا تحدث الأمور عند البشر.
خُذْ عدّة شهود لحادثة اصطدام سيارة بشخص، فتحصل على عدّة روايات، جميعها صحيح. لكن كلّ شاهد يروي ما قد رأى انطلاقاً من تفاعله مع الحدث. وتلعب عوامل عديدة دورها في روايته: نفسيّته وطباعه لهما دور، وكذلك دقّة ملاحظته، ومقدرته على التحليل، ووجود علاقة شخصيّة له مع السائق أو المصدوم…إلخ.
هكذا كان شعب العهد القديم. يرافقه الله من أجل تأسيس نواةٍ لانكشافه تعالى للبشر. وفي مرافقته هذه، كثيراً ما اندهش الشعب بأعماله، وكثيراً ما أخطأ في فهم مقاصده، وكثيراً ما قوَّم ما قد انحرف من سلوكه، وكثيراً ما تغاضى عنه وعن وصاياه. علّم العهد القديم البشر الإلهيّات عمليّاً، لا نظريّاً. فهم الشعب أنّه غالبٌ لأنّهم ينتصرون حينما كانوا مطيعين له، وأنّهم ينهزمون حينما يهجرونه أو يعصونه. هذا إيقاع لاهوت سفر القضاة، على سبيل المثال. عرفوا أنّ الله يقيتهم من لا شيء عندما وجدوا المَنّ والسلوى، وأنّهم يجوعون إنْ اتكلوا على عطاياه، لا عليه شخصيّاً، عندما وجدوا أنّ المَنّ يفسد حين يخزنونه مؤونةً لهم.
أنت مضطر لقراءة تاريخ العهد القديم، كي تفهم طريقة عمل الله معك شخصياً. لكنّك تقاربه، لا من بعده البشري فقط، بل الإلهي أيضاً. لماذا؟ لأنّه ليس تاريخاً بشريّاً عاديّاً، بل تاريخ تعامل البشر مع الله من جهة، وتاريخ فعل الله مع البشر من جهة ثانية.
ليس الحدث التاريخي هو الهدف، بل اللاهوت الكامن في ثنايا الحدث وما وراءه. ويذكر الكتابُ المقدّس الحدث، أساساً، لكي يقول المغزى اللاهوتي منه، لا لكي يؤرّخه. فعندما يذكر الكتاب سقوط أريحا، مثلاً، يسرده بأسلوب ليتورجي. لماذا لأن المدينة كانت قد دُمرت كليّاً وهُجرت، قبل قرنين، على الأقل، من تاريخ دخول يشوع وجماعته إليها.
كيف نفهم الأمر؟ بعد قرون من الاستقرار في الأرض، ونشوء الملكية والدواوين بدأت كتابة تاريخ الجماعة دينيّاً، فبدأ الكتبة بتدوين ما كان محفوظاً شفهياً لقرون خلت. هذا لا يخصّ العبرانيين فقط، فجميع الشعوب القديمة كتبت تاريخها انطلاقاً من تراثها المتناقل شفوياً، لحظةَ لم تكن الكتابة قد اكتُشفت بعد. لكن ما قد حُفظ، وتناقله الناس شفهياً، متمحوراً، أساساً، حول الله ودوره في حياة الجماعة. ولذلك يصير، عبر الزمن، قراءة لاهوتية للأحداث، أكثر مما هو تأريخ لها. فيصبح استيطان المدينة المدمرة عطية إلهية، في نظر الأجيال اللاحقة.
رأت جماعة العهد القديم في تراثها عظمة وقوّة، وفي الله سنداً وحامياً، عندما كانت في استقرار وازدهار. ورأت فيه ذلّاً وتخليّاً، وفي الله مُعاقِباً ومؤدِّباً، عندما كانت مذلولة مهزومة. لعب الله دوره في نحتها، كما ينحت الفنّان الحجر ليصنع تمثالاً جميلاً منه. نحت الله، في المطاف الأخير، بقيةً أمينةً، أتى المسيح منها، وفتح الباب لجميع الشعوب.
تاريخ العهد القديم هو تاريخ كلّ نفس بشرية تسير مع الله، وكلّ نفس مجاهدة روحيّاً تدرك مقاصد الله جيداً، تخطئ وتسقط، وتتوب وتنهض، ومن ثمّ تزوغ وتعي نفسها… والله يرافقها طوال هذه المسيرة، هادياً وراعياً ومؤدِّباً، ليّناً وقاسياً، حاضراً وأحياناً يبدو غائباً، ملاطِفاً وصافِعاً. يعرف كيف يلاعبنا حتّى يأتي بنا إلى مراعي الخلاص.
لكن مشكلة البشر، عموماً، أنّهم غالباً ما يتعاطون مع الله بصفته كائناً إعجازياً فقط، ويريدونه ساحراً مدهشاً. يطلبون منه معجزة، ويشترطونها بحسب مفهومهم، لا بحسب مفهومه هو. يريدون أن يروا في المَّن والسلوى، على سبيل المثال، إمطاراً إلهيّاً، من كليهما. ويرفضون أن يروا إعجاز الله في تزامن وصول الهاربين، الجوعى والمنهكين، إلى الساحل، مع هجرة الطيور من الشمال إلى الجنوب!!
يريدون أن يروا في غرق مركبات فرعون، عودة عجائبيةً لمياه البحر الأحمر، ويرفضون أن يردوا إعجاز الله، في عرقلة سير مركبات جيش فرعون، إلى استخدامه، تعالى، لحركة المدّ والجزر في مستنقعات بحيرات البحر الأحمر. وهذا ما يقوله سفر الخروج حرفياً في الإصحاح الرابع عشر.
الله قادر على صنع عجيبة ساحرة، ولكنه قادر أيضاً على جعل الطبيعة، التي خلقها، خادمة لمقاصده الإلهية.
صارحت عجوز بولندية، تعاني من وجع أسنانها الشديد، كاهن الرعية بعتبها على القديس أنطونيوس (شفيع آلام الأسنان في بولندا) لأنه لم يستجب لطلباتها ويشفيها. فصلّى الكاهن، وطلب من القدّيس جواباً. فظهر القدّيس له وقال: ماذا أفعل أيّها الأب لها، وقد أرسلت لها طبيب الأسنان ثلاث مرات؟!
ألا يتعاطى كثيرون مع الله هكذا؟!
09 تشرين الثاني 2015