صانعو السّلام – المطران أنطونيوس (الصوري)
“طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ، لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللهِ يُدْعَوْنَ” (متّى 5: 9).
هل يستطيع الإنسان أن يصنع السّلام؟!… وما هو السّلام يا ترى؟!…
يقول الرّبّ: “سَلاَمًا أَتْرُكُ لَكُمْ. سَلاَمِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا. لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ وَلاَ تَرْهَبْ” (يوحنّا 14: 27).
لا يصنع السّلام، أي لا يعطي سلامًا، إلّا من كان عنده “السّلام”، أي سلام المسيح. من عنده سلام المسيح لا يضطرب ولا يخاف كيانيًّا لأنّه يَأْتَمِنُ المسيحَ على نفسه…
* * *
ما هو السّلام الّذي أعطانا إيّاه الرّبّ؟. إنّه سلام جوهريّ (intrinsèque et substantiel) أي هو فينا ومنّا، هو في طبيعتنا المتجدِّدة بالمسيح في الرّوح القدس بمشيئة الآب. سلام المسيح هو، بالحقيقة، سُكنى المسيح فينا بالنّعمة الإلهيّة. وحيثما يحلّ المسيح ويستقرّ فهناك يكون ملء النّعمة. هذه خبرةٌ يعيشها الإنسان في القلب، حيث يدخُل في سرّ عِشرة الله ومعرفته.
من لم يتسالَم مع نفسه، أي من لم يتب، لا يستطِع أن يحصل على السّلام، وبالتّالي لا يمكنه أن يكون صانع سلام. من هنا، من لا يعرف ذاته بالتّوبة لا يعرف الله إلّا بحسب أهوائه، أي هو غارق في نفسه وغير قادر على أن يمتدّ خارجها بالحبّ النّقيّ الّذي هو من فوق من عند أبي الأنوار. هذا لا يستطيع أن يكون صانع سلام.
* * *
سلام العالم الّذي نسمع عنه هو أمن وضبط محدود للشّرّ المتمثّل بالحروب والقتل والتّدمير وما يستتبعها. هذا ما يدعوه العالم سلامًا. لا نقلّل من أهمّيّة هذا الأمر بالنسبة لحياة البشريّة كافّة، لكن ماذا نصنع بالشرّ الكامن في النّفوس، كالأنانيّة والكبرياء والحسد والكره والاستعباد لملذّات الجسد وحبّ القنية والمجد الباطل وطلب المديح والتّسلُّط؟!… هذه هي أصول الشّرّ في حياة البشريّة جمعاء، هذه هي الّتي تدمّر العلاقات بين البشر وتزرع الفرقة والخصام والعداوة بين النّاس. هنا مكمن الشرّ: قلب الإنسان، “لأَنَّهُ مِنَ الدَّاخِلِ، مِنْ قُلُوبِ النَّاسِ، تَخْرُجُ الأَفْكَارُ الشِّرِّيرَةُ: زِنىً، فِسْقٌ، قَتْلٌ، سَرِقَةٌ، طَمَعٌ، خُبْثٌ، مَكْرٌ، عَهَارَةٌ، عَيْنٌ شِرِّيرَةٌ، تَجْدِيفٌ، كِبْرِيَاءٌ، جَهْلٌ. جَمِيعُ هذِهِ الشُّرُورِ تَخْرُجُ مِنَ الدَّاخِلِ…” (مرقس 7: 21 – 23).
* * *
من المحبّة الإلهيّة ينبع كلّ خير وفرح وسلام. في المسيح نحن “خليقة جديدة”. بالرّوح القدس الرّبّ “الصّالح والصّانع الحياة” نعيش في جدّة الحياة. وُهِبْنَا نعمة تجديد الوجود بابن الله المتجسِّد، وأن نشاركه قوّة الخلق (le pouvoir de créer) الرّوحيّ إذ تأقنمت النّعمة الإلهيّة فينا. بنفخة روح الله الّتي فينا يفيض روح السّلام في العالم ونصير صانعي سلام… فلنطلب سُكنى روح الرّبّ فينا بطاعة الكلمة حبًّا بالله الآب في مسيرة التّوبة الحقّة، وسكنانا في الله بتسليمنا ذواتنا بالكلّيّة له، ليصير الله هو “الكلَّ في الكلّ”…
نشرة الكرمة
15 تشرين الثاني 2015