إلى زحلة (الأبرشية) وملاكها – المطران سابا (اسبر)
أقعدني الاستشفاء عن مشاركتكم فرح الرسامة ونِعَمِها. ما كنت معكم بالجسد، لكنّي كنت أرافقكم بالروح خطوة خطوة، من بدء صلاة الغروب وحتى نهاية الخدمة الإلهية في اليوم التالي. شكراً للتكنولوجيا، هدية الله لنا، التي جعلتني أتابع قسماً كبيراً من الخدمة، لا بعينَيْ الروح فقط، بل بعيْنَيْ الجسد أيضاً.
زحلة الأبرشية فرحة بك يا أخي، ويحقّ لها أن تفرح. فملاكها الشيخ الوادع قد أفسح المجال لملاك شاب جديد، فكانت مكافأة سيّد الكنيسة أن جعل له خليفةً ممتلئاً بالوداعة، التي ميّزته طوال خدمته الأسقفيّة الطويلة. يحقّ للشعب أن يبتهج حين يرى أسقفه قدوة في التواضع، وقد بادله الله، بخَلَف له يتابع المسيرة وينمّيها ويعليها. هذا الشعب المحبّ لله، الذي ما برح يبحث عمّن يكسر له خبز الحياة، قد صار، منذ اليوم، مسؤوليتك أمام الله. وما نعرفه عنك أنّك أهل لما اختارك الله له.
عرفتك، يا أخي، محبّاً لله حتّى الثمالة، ولأنّك هكذا، صرت محبّاً وخادماً لشعبه، حتّى نفاذ قدرتك. وما فَرَحُ الذين عايشوك من أهل طرابلس والكورة، والذين سمعوا عنك من أهل أبرشيّتك، إلا بسبب ما رأوه توسّموه، فيك، من عيشٍ لوصيّة المسيح العظمى القائلة بمحبّة الله والقريب. كانت الرسامة عرساً، فرحاً حقيقياً، وكذلك الدخول إلى الأبرشية والتنصيب. أعرف أنّ الآمال التي يعلّقها المؤمنون عليك طموحة جداً، وقد تفوق قدراتك وقدرات الأبرشية. لكن، اسمح لي، أنا غير المستحق، أن أقول لك ولهم، انطلاقاً من خبرتي في عمل الله في أبرشيّتي المنسيّة: إنّ ما هو مستحيل عند البشر ممكن عند الله.
قد تحجب جمالات طقوسنا الفخمة ومحبّة شعبنا العاطفية الصليبَ عنّا في البداية. قد نقع، نحن الأساقفة، في فخ ما نراه من جمالات بين الانتخاب والتنصيب، فنظن أنّ الأسقفية أفراح لا تنتهي. بينما هي، إن كانت بحسب الربّ، أفراح لا تأتي إلا من الصليب. تماماً كما نقول في صباح كلّ أحد “بالصليب أتى الفرح لكلّ العالم”.
تكمن المفارقة التي نعيشها في ديارنا المشرقية في التشويش الحاصل في مفهوم الكنيسة عند الأكثرين. هذا سببه التركيبة السياسيّة الطائفيّة القائمة في بلداننا. ممّا يجعلنا رؤساء ملّة في نظر كثرة من المؤمنين، بينما نحن، في الحقيقة، آباء روحيّون أولاً. لا شكّ في أنّ رسالتنا الأولى والوحيدة تكمن في قيادة النفوس إلى ميناء الخلاص، والسعي إلى جعل أرضنا صورةً، ما أمكن، عن الملكوت السماوي. هذا يتم برعاية روحيّة خالصة، بإرشاد إنجيليّ، بإيقاظ النفوس على قباحة الخطيئة، وتشجيعها على محاربتها، واستبدالها بالفضيلة.
أعلم أنّك خبرت هذا كلّه وتعرفه جيّداً في كهنوتك وفي الدير. لكن الوجه الآخر للأسقفيّة في بلادنا يحمّلنا مسؤولية ما هو من مسؤوليّة الدولة. لو كان شعبنا يطالبنا بما لنا طاقة به لما كانت لدينا أيّة مشكلة. تكمن الصعوبة في أنّه يطالبنا بما يعوزه، وبما هو عمل الدولة أساساً، وبما يفوق طاقات الكنيسة في أغلب الأحيان. بسببٍ من التقصير الكبير في الخدمات العامة، وبسبب من الوضع الطائفي البغيض، المتأصل في النفوس والنصوص والممارسات، يلجأ شعبنا إلينا: يريدنا بديلاً عن كلّ ما يعوزه، بمعرفة أو بغير معرفة.
تتطلّب مواجهة هذا الواقع رجالاً يأتون من الله، ولا شك في أنّك واحداً منهم، لأنّ المطلوب، أساساً، أن لا يطغى تأمين الحاجات المعيشية على طلب الحاجات الخلاصية وتأمينها. كيف نحقّق التوازن، فلا تصير الكنيسة مؤسسة من هذا العالم؟ إنّه السؤال الشائك! كيف نحافظ على مستوى مؤسسة اجتماعيّة أو تربويّة تتبع للكنيسة، ونستطيع تأمين الاستفادة المادية منها لأبنائنا، دون أن تنكسر ماديّاً أو يتراجع مستوى خدماتها الأساسيّة؟
سوف يسألك شعبك خبزاً ماديّاً، وأنت أُقمت أباً له لكي تعطيه الخبز الروحي. لا أشك في أنّ محبّتك الغامرة لشعبك ولله أولاَ، سوف تجعل الله يحيطك بما يلزم لإعاله أولاده. لكن، هذا يعتمد أيضاً على موقف المؤمنين، وصدق مشاركتهم لك في حمل هذه المسؤولية. مطالِبو المطران بالتزامات كثيرة، هم أوّل المسؤولين عن مساعدته، في تأمين الطاقات اللازمة من أجل تحقيق هذه الالتزامات. شعبنا الأرثوذكسي، عموماً، يطالِب المطران، أكثر ممّا يطالِب نفسه. ليس المطران ب”سوبرمان”، لكنّه يصيره إن كان حوله شعب مصلٍّ، وواضعٌ نصب عينيه محبّة الله أولاً، وقبل كلّ شيء.
كثيراً ما ورّط الغيورون على الطائفة الكنيسةَ، وما نجحوا في تحقيق عزتّها ورِفعَتها. ولعلّ هذا ما حدا بالجيل السابق من المطارنة، إلى العمل المباشر للحاق بمسيرة النهضة، وما سمحوا للنقاشات العقيمة أن تضيّع وقتهم في البناء. لقد خسرت كنيستنا في النصف الأول من القرن العشرين كثيراً من أوقافها، التي لم تُستثمر كما يجب، ولم تُوضع في خدمة المؤمنين بالطريقة اللائقة. ما قرأ القيّمون عليها المستقبل جيّداً. فجاء رعيلٌ من المطارنة المتنورين، الذين وضعوا جهدهم وطاقتهم في تحقيق ما فات. ومن يقرأ تاريخنا القريب يستنتج أنّ ممثّلي الشعب المؤمن، حين كانت الكلمة لهم، ما كانوا، دوماً، أكثر أمانةً للطائفة من المطارنة.
آن الآوان لننتهي من الأفعال وردودها، فنبدأ بمساندة بعضنا بعضاً، عملاً بمبدأ التآزر الكنسي، لكي ننهض من كبوات التاريخ وسقطاته. تحتاج الكنيسة إلى “أبناء كنيسة”، لا إلى أبناء هذا الدهر. أبناء الكنيسة، يعيشون في هذا العالم، لكنّهم يعرفون الفرق بينه وبين الإنجيل. وعندما يطرحون أمراً ما في الكنيسة ولها، فهم ينطلقون من الإنجيل حصراً، واضعين علومهم الدهرية في خدمة تجسّده في الحياة. هكذا يبدأ التعاون بين الإكليروس والعلمانيين. ليس من يُسَموا بالعلمانيين، في الكنيسة، علمانيون بمعنى الكلمة السياسي. هم شعب الله، والكهنوت الملوكي. وكما على المطران والكاهن أن يأتيا من الله، عليهم هم أيضاً أن يأتوا من الله، وإلا فهم يأخذون الكنيسة إلى التفاهة.
ما أعرفه ويعرفه الكثير من آباء المجمع الأنطاكي المقدّس عنك، يجعلنا نتوسم فيك تحقيق أبهى صورة للأسقفيّة. كلّنا شوق إلى أن نرى أبرشيّتك وقد غدت قدوةً لنا جميعاً، في السنين القريبة الآتية. كان الله إلى يمينك في كلّ حين. ترافقك وشعبك صلوات الكثيرين من محبّي الله في أنطاكية. حنوّك الوادع والحازم في آن، بنعمة الله، قادر على تغيير أقسى النفوس.
16 تشرين الثاني 2015