في ثقافة المحبّة – المطران سابا (اسبر)

mjoa Tuesday November 24, 2015 131

في ثقافة المحبّة – المطران سابا (اسبر)

المحبّة وصيّة السيّد الأولى والعظمى، وقد حدّدها بمحبّة الله من كلّ القلب والنفس والقدرة والقوّة، ومحبّة القريب كالنفس. ولمّا سئل عمّن هو القريب، أعطى السائلين مَثَل السامري الصالح، ليقول إنّ كلّ من يصنع معك الخير يصبح قريبك، وتالياً كلّ البشر أقرباء المسيحي، كونه مُطَالَبَاً بصنع الخير مع الجميع.
ما من خلاف مبدأي حول هذه الوصيّة العظمى، فوضوحها الساطع في الإنجيل لا يدع مجالاً للتساؤل حولها. يتمحور السؤال الأهم حول كيفيّة عيشها أو تجسيدها. فالإنسان ميَّال، بحكم وضعه الساقط روحياً، إلى أن يحبّ ذاته لا الآخرين. والعقبات، التي تعيق تجسيد محبّته، كثيرة. وهي ليست محصورة في شخصه فقط، بل تطال تربيته ونشأته والمؤثرات البيئية والاجتماعية والثقافية، التي ترعرع في مناخها، وخبرها. إلى ذلك هناك العقد النفسية، التي ترسخت فيه منذ الطفولة.

dad-babyكثر هم الذين عشقوا المسيح، وشهدوا لعشقه ذوباناً كاملاً من أجل “القريب”. وكثر هم أيضاُ، الذين يريدون أن يكونوا أمناء له، ولكنّهم كثيراً ما يسيؤون للمحبّة. إنّ الغالبية العظمى من البشر، في الواقع، لم تُنَشَّأ على ثقافة محبّة واعية ومدركة وهادفة. يحبّ الإنسان بدافع الغريزة أو القرابة أو الصداقة أو الشهوة فتكون محبّته، في حقيقتها، وليدة الرغبة أكثر من المبدأ، وسيلةً أكثر منها هدفاً، تلعب أمورعديدة، كالشهوة والمنفعة والعادة، دوراً كبيراً فيها.
إنْ أردت أن تكون مسيحياً أميناً، عليك أن تسعى إلى امتلاك ثقافة المحبّة، وتربّي ذاتك على اكتسابها والنمو فيها. وهاك بعض النصائح التي تساعدك في هذا المسعى المبارَك:
• اجعلِ المسيح نصب عينيك، لتتمثَّل به. يساعدك في ذلك، الداوم على تأمل كلمات إنجيله يومياً، وملاحظة موقفه من الناس، والغوص في الكلمات التي وصف بها الإنجيليون مشاعره تجاه البشر، كفعل “تحنّن، أشفق، كغنمٍ لا راعي لها….”.
• ابدأ بالذين تحبّهم حقاً. اعمل على أن تكون محبّتك لهم نقيّة، خالية من النفعيّة. تعامل معهم بمحبّة خالصة. عوِّد نفسك على تفهمهم، واستيعابهم، والوقوف إلى جانبهم، وغفران أخطائهم.
• لا تسجن محبوبيك بمحبّة غامرة، إذ إنّها أنانيّة غير واعية. اترك لهم بناء شخصيّتهم وحريّة التعبير عنها. كنْ سنداً لهم لا مُسَيِّراً. اترك مسافة بينك وبينهم، فهي تقيك وتقيهم من صيرورة محبّتك الثقيلة. حاول أن تكون محبّتك نسيماً رقيقاً، لا شمساً حارقة.

• اجعل الكلمات اللطيفة والمهذَبَة على لسانك دائماَ. درِّب نفسك على الطلب بكلمات عذبة وداعمة، على غرار: “من فضلك، اعمل معروفاً، إذا سمحت”. لا تطلب بحزم وعنف. لا تُظهِر استعلاءً على من تقصد خدمته لك. تعامل بإنسانيّة مع الجميع.
• درِّب نفسك على استعمال كلمات الشكر، عندما يقدِّم لك الآخرون خدمةً ما. ليعتدْ لسانك على النطق بكلمات الشكر والامتنان: “سَلُمَت يداك، ممنون، كافأك الله…”. الكلمة الحلوة تغذّي وتقوّي، وكثيراً ما غيّرت نفوساً ونقلتها من اليأس إلى الرجاء. لا تستهن بأيّة كلمة تخرج من فمك، ولا بأيّ تعبير يلمحه الآخرون في وجهك.
• ابتسم في وجه من تلتقي بهم. لا تلقِ التحيّة بجفاء، بل ارفقها بابتسامة منعشة، وعينين متألقتين. قد تشعر أحياناً أنّك تمثّل. لا بأس، ابدأ بتعويد نفسك على هذه الأمور حتّى تصل، إن كنتَ محبّاً لله ومجاهداً بالروح، لتصير، هذه كلّها، تعبيراً طبيعياً لِما يعتمل في قلبك من حبّ للخليقة كلّها.
• لا يتوافق عدم التهذيب مع المحبّة، وفي الوقت ذاته، لا يكفي التهذيب لتصير محبّاً. يجب أن تنبع محبّتك من الداخل، وما يظهر منها خارجياً إنّما تعبير طبيعي عما أنت عليه حقاً.
• عوِّد نفسك على مشاركة المتألمين، ولا تكتفِ بمشاركة الفرحين فرحهم. زُرْ مرضى، حزانى، شدّدهم، واسِهِم، تردّد عليهم، وعزِّهم، خصِّص لهم من وقتك. ستجد كثيراً من السبل لتعزيتهم، إن كنت على حياة روحية حقّة.
• ألزمْ نفسك بخدمة مسنّ ليس له أحد، أو ولد فقير بحاجة للتعليم، أو معوّق بحاجة إلى من ينزّهه أو يصادقه. وأمثالهم أكثر من أن يُحصوا، وهم موجودون في كلّ مكان.
• اقرأ سِيَر شهود للمحبّة من بين القدّيسين والشخصيّات الإنسانيّة، الذين لعبوا دوراً مبرّزاً في هذا الحقل. شاهد أفلاماًعن عملهم. نمِّ، بواسطتهم، حسّك الإنساني، لكي تقابل به كلّ ما يصادفك في حياتك، واكتشف دعوتك أو موهبتك أو مقدرتك، وبكلام إنجيلي اكتشف “وزنتك” وضاعفها.
• أحببْ بفرح، لا بحكم الواجب. دعِ المحبة الحقة تكمّلك. أحببِ الخليقة أيضاً، فكثيراً ما قادت محبّة الخليقة إلى محبّة الإنسان والخالق معاً.
• ألزمْ نفسك في أوقات محدّدة بمشاركة فقير في معيشته. عشْ يوماً أو أكثر مثله. لا تستعملْ ما بحوزتك من رفاهية لا يملكها. عندما تشاركه فقره تشعر بما يشعر به هو، وتبدأ بالتعامل معه بروح تساوي البشر في إنسانيتهم. إنّك عندما تذوق فرح المشاركة هذا، ستكتشف كمّ الفرح الذي سيجتاحك، وكمّ الدفق الإنساني الكامن فيك. آنئذٍ، تنظر إلى الآخر، لا نظرة فوقية، بل إزائية: إنساناً لإنسان. وهذا ما يجعلك تفيض بالمحبّة الفرِحة عفوياً.
• تخطئ حين تعتقد أنّ الآخر هو من يغتني بمحبتك فقط. لأنّك، في الواقع، تغتني بهذه المشاركة، وتكتسب فرحاً وطاقة حبّ مثله وأكثر. كذلك، تحرّرك المشاركة من التقوقع على ذاتك المريضة بالأنانية والخوف والقلق، فتنبسط أمامك آفاق روحية لا حدود لها.
• راقبْ ذاتك وافحصها يومياً. كيف كان سلوكك اليوم؟ متى تصرفت بنزق؟ هل جرحت أحداً؟ متى وكيف ولماذا؟ فحص الضمير اليومي هذا يساعدك كي تنمو في حياة المحبّة أكثر فأكثر، كما يساعدك على معرفة مكامن القوة ونقاط الضعف عندك، فتبدأ بمواجهتها وتدعيمها، فتتدرّج في النمو نحو ملء المحبّة يوماً بعد يوم.
• لا تخفْ إن أخطأت تجاه المحبّة. بل قمْ وصحّحْ خطأك. واعلم أنّ أخطاءك في التعبير عن هذه الفضيلة، معلّم كبير لك في تخطيها مستقبلاً. ما لم تقم بالخطوة الأولى، وتتعثّر مرّات ومرّات، لن تصل إلى الكمال. قام المسيح من القبر لكي يقيمك من كل سقطة.
• ضعِ الصليب نصب عينيك، ولا تنسَ أنّه “بالصليب أتى الفرح لكلّ العالم”. المحبّة مكلفة، والمُحبّ الحقّ كثير الأوجاع، لكنّه كثير النعم والبركات أيضاً. لاحظِ ارتفاع نسبة المنتحرين في البلاد المرفَّهة. أعدَّ نفسك للتضحية وحمّلها آلام المحبوبين. على قدر ما تزداد محبّتك تزداد آلامك، وتالياً بركاتك. تصنع لك المحبّة جناحاً لتصير شبيهاً بالملائكة.
اجعل المحبّة مسرى حياتك، لتعيش ملء الحياة.
23 تشرين الثاني 2015

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share