من الخوفِ إلى الرّجاءِ! – الأرشمندريت توما (بيطار)

mjoa Tuesday November 24, 2015 147

من الخوفِ إلى الرّجاءِ! – الأرشمندريت توما (بيطار)

   ليس لحم ودم إلا يخاف. من قال إنّه لا يخاف، وهو لا يعرف الله، لا يقول الصّدق!. إمّا يكون واهمًا أو يدّعي!. من دون الله، الخوف يملك، لا محالة!. علامة السّقوط هو. ما هو السّقوط؟ هو الانقطاع الكيانيّ للإنسان عن الله وتمركزه في ذاته كأنّه الإله، وكأنّ له حياة في ذاته!. أمّا الله فلمّا يتخلَّ عن مخلوقه. لو كان ليفعل لزال الإنسان!. بعيدًا، كيانيًّا، عن الله لا أمان للإنسان. من هنا كون الخوف، كشعور عميق باللّاأمان، حتميًّا، ولا ما يزيله إلاّ حبّ الله!. وحدها محبّة الله تطرد الخوف إلى خارج!. هذا معادل للقول: إن لم تؤمنوا فلا تأمَنوا!.
 على هذا، كلُّ موقفٍ للإنسان ردُّ فعلٍ للخوف الرّاسخ فيه، وكلُّ سلوكٍ مسعًى للهرب من ذاك الخوف، ولكنْ… دون جدوى!.

lonelyما يتظاهر به الإنسان غير ما يعانيه كيانُه!. لا يعرف نفسه على حقيقتها!. تصوّرُه عن نفسه غير ما هو عليه!. فلا غرو إن قالت حكمة القدماء: اعرف نفسكَ!. شهوة نفسه، وما يوحي له به الآخرون عن نفسه، يصنعان الصّورة!. ما يُظنّ أنّه إيّاه يختلف عمّا هو إيّاه حقًّا، فإمّا يَغلب الظّنّ فيقع في الوهم، وإما تغلب حقيقة الحال فيقع في القلق والحزن واليأس!.

   ليست المشكلة نفسيّة. علم النّفس، بعامة، وأقصد “بعامة” المُدَهرن، الّذي يعزل الإنسان عن الله، ولا معنى، لديه، للسّقوط، ولا يُقيم وزنًا لحياة روحيّة، ولا يحسب حسابًا لخطيئة، أقول علم النّفس لا يتعاطى، ولا يمكنه أن يتعاطى إلاّ نتائج الخطيئة دون جذورها. هذا يجعل مدارس علم النّفس غرقى نظريّات أصحابها وقراءاتهم للنّفس البشريّة ومعاناتها، ما يحول دون معالجة أمراضها معالجةً ناجعة، والاكتفاء بطمسها من خلال اتّباع مسارات علاجيّة إيهاميّة أو تخديريّة، ما قد يتسبّب في تفاقم حال المرضى، وشلّ قواهم الدّاخليّة!. علم النّفس أكبر من علماء النّفس، وكلّ مسعى لتعاطيه، خارج أصول الحياة الرّوحيّة، فعل عبثي!.

   الخوف على النّفس هو الكامن وراء حبِّ الذّات. في قرارة نفسه، يشعر الإنسان بأنّه مكشوف، مهدّد. لذا همّه العميق هو كيف يحمي نفسه، كيف يردّ القلق عن نفسه، كيف يشعر بالأمان، بالطّمأنينة.
السّلوك في الأهواء، في الحال الّتي الإنسان فيها، مسعًى علاجيّ فاسد، ما يجعل الدّواء يُرسِّخ الدّاء. “داوني بالّتي كان هي الدّاء!.” لأنّ الإنسان يخاف على نفسه، يتقوقع على نفسه. ليس حبّ الذّات سوى التّقوقع على الذّات!. بتقوقعه على نفسه، يحسب أنّه يحمي نفسه من الغير، ومن الأخطار الّتي تُحيق به. لكنّ مصدر التّهديد ليس من الخارج. حتّى لو فتك الإنسان بكلّ أعدائه، الآتين عليه من الخارج، وأزال كلّ أسباب التّهديد البرّانيّة، فإنّ نفسه لا تستكين!. هذا لأنّ ما يتهدّده كامن فيه!. ليست المعادلة السّليمة: أزِلْ عدوَّكَ ترتَحْ، بل أزِلْ خوفَكَ يَصِرْ عدوُّكَ قريبَكَ، والأرضُ فردوسَكَ!. ما لا يعيه الرّاسخون في الخوف على أنفسهم، ولا يلوذون بالله، أنّ خوفهم يحدوهم، أبدًا، إلى العمل على تدمير العالم، ومن ثمّ إلى الانتحار، هربًا من ذواتهم!. فقط، متى تحرّر المرء من خوفه، إذ ذاك، يُحبب ذاته، على حقيقتها، ويحقّق الوصيّة أن “أحبب قريبك كنفسك”، وإلا، من منطلق الخوف الكيانيّ للإنسان، لا تعدو محبّته لذاته كونها انكفاءً على النّفس، ولو من خلال التّواصل الاجتماعيّ، انطباقًا على الذّات، حتّى الاختناق، كمثل بهيمةٍ، لها حبلٌ حول عنقِها، كلّما شدّت لتتحرّر منه كلّما اشتدّ الخناق عليها، إلى أن تلفظ أنفاسها!.

   على أنّ للخوف وجهًا إيجابيًّا، يتمثّل، في المجتمع، في أمرين: الخوف من العقاب ورقيّ الحسّ المدنيّ!. لكي توفِّر الجماعة لنفسها الاستقرار بشيء من الهناء، اخترعت لنفسها النّظام والقانون. هذا أبرزَ مفهومَ الحقوق المدنيّة، وحقوق الإنسان، وما إلى ذلك. هذا أساسه أنّ لكلّ إنسان الحقّ في الوجود والعيش في سلام وأن تكون له فرص للازدهار. ففيما يهتمّ النّظام بضمان هذا الحقّ، كائنة ما كانت المعاني والحدود الّتي تُعْزى إلى هذا الحقّ، يتوخّى القانون السّهر على ألا يتعدّى أحدٌ على حقوق غيره، وإلا يُعاقَب ويؤدَّب. الخوف من العقاب يردع، والخوف على الحقّ المدنيّ، يحمل المرء، في إطار أنظومة النّظام والقانون، على الحرص على الحقّ العام، لا بالضّرورة، لأنّه يغار على ما للآخرين، بل لأنّ الحقّ العامّ يضمن له حقّه الخاصّ!. هذه الغيرة على ما للذّات، في إطار الحقّ العامّ، يمكن أن تحمل على رقيّ فذّ في الحسّ المدنيّ، ما يجعل آلية المجتمع الأهليّ تعمل بضبط يُعتدّ به!. هذا، طبعًا، في أحسن الحالات، ما يتضمّن أنّ ثمّة حالات يكون فيها القول بـ”الحقّ العامّ” شعاريًّا خاويًا أو شبه خاو. أنّى يكن الأمر، فإنّ القانون والنّظام يتعرّضان، في الأزمات الحادّة، للاختلال، وقد تسود شريعة الغاب ويصير كلٌّ لنفسه حيث تتوقّف آلية القانون والنّظام عن العمل.

 على أنّه إذا كانت أنظومة الحقّ العامّ إطارًا موافقًا لتأمين الحقوق المدنيّة للشّخص، فإنّ الحياة الخاصّة لكلّ أحد تبقى خارج إمكان الضّبط الخارجيّ، وتبقى نفسُ الإنسان ساحةً لديناميّة الخوف، وردود الفعل عليها. في سعي المرء للخروج من القلق يمكن أن يستحيل وحشًا، كما يمكن أن يقع في كلّ أنواع الأمراض النّفسيّة. وقد يأتي ممارسات غريبة، كالرّياضات الخطرة الّتي توهمه بأنّه إن اقتحم المخاطر قَوِيَ على حسّ الخوف فيه، والفحشاء الّتي توهمه أنّه، بتعاطيها، يتخلّص من العقد والحواجز الّتي هي، في ظنّه، في أساس خوفه الكيانيّ، والمخدّرات، على أنواعها، الّتي توهمه أنّه، بمعاقرتها، ينسى قلق نفسه، أو يهرب منه، ليرتع في جوّ من المتعة واللّاحس، والممارسات شبه العباديّة، أقول شبه العباديّة لأنّ لها شكلًا عباديًّا، لكنّها مشبعة بالإيحاء الذّاتيّ والانفتاح على الأرواح الشّرّيرة، كتحضير الأرواح، واليوغا، والتأمّل التّجاوزيّ؛ هذه توهم الإنسان أنّه بإمكانه، بنفسه، أن يتجاوز ذاته، وأن يتحرّر من القلق العميق الّذي فيه، ليبلغ السّلام ونشوة الرّوح!. كلّ هذا خبط عشواء في الظّلمة الدّاخليّة للنّفس. ما يأتي من ظلمة لا يكون إلّا ظلمة!. لذا، كلّ ما يدّعيه المرء، أو يظنّه، والحال هذه، كأنّه نور لظلمته، لا يعدو كونَه إيغَالًا في عتمات متَّاهات النّفس!.

   للخوف علاج أوحد: محبة الله، وظلمة النّفس لا تتبدّد إلّا بنور الله!. فقط الله محبّة!. فقط الله نور!. ربّك ترك الخوف في الإنسان، لكنّه لم يترك الإنسان!. ما أتى به الإنسان على نفسه أراد الله، لمحبّته، أن يجعله أداة للخلاص الأبديّ والتّقديس!. في أوّل الأمر، صار الإنسان لا يسمع، بالأكثر، إلّا صوت نفسه. صوت الخوف صار في الكيان يتردّد، عنيفًا، كالزّلزال!. آدم وحوّاء هربا من وجه الله!. قايين هرب أيضًا!. أمّا هابيل الأمانة فمات!. لكنْ، بقي الله ينادي الإنسان!. كان يأتيه، أبدًا، ولكن، خافتًا، كالنّسيم العليل!. هذا قياسًا بهدير العاصفة!. صوت الله كان صوتًا في الضّمير، في الكيان!. لم يكن الله، لإيليّا، لا في الزّلزلة ولا في العاصفة!. ذاك النّسيم العليل كان النّسمة الّتي خلقت الإنسان، وهي إيّاها الّتي حفظته في خروجه إلى “بلاد بعيدة”، في تغرّبه عن أبيه السّماويّ!. مذ ذاك، والخطيئة، في الخوف، تفعل في كبد الإنسان، وروح الله، أيضًا، يفعل!. ولكن، كان لا بدّ للإنسان، أوّلًا، حتّى ينفذ روح الله إلى أعماقه، من أن يبلغ حدّ اليأس… من نفسه!. الخوف، خوف الإنسان الكيانيّ، كان ليقوده إلى اليأس!. ما تحرّك الرّوح في قلب الابن المنشطِر عن أبيه إلّا بعدما وطئ عتبة اليأس من ذاته ومن حاله!. هذا تمثّل في صورة إطعام الخنازير واشتهاء أن يكون كالخنازير ولمّا يُعطِه أحدٌ!. كلّ آمال ابن آدم، ساعتذاك، سقطت، وساد، في كيانه، اليأس!. إلى أين المفرّ، بعد؟!. أقوم أعود إلى أبي!. من يأس الإنسان من نفسه وُلد رجاؤه بالله!. هذا أفرع فيه الإيمان، إذ أضحى في حالٍ أتاحت لروح الله، الّذي ما فتئ إليه، أن ينفذ إلى عمق أعماقه!. وتغيّر ابن آدم!. تاب!. في البدء، قبل السّقوط، كان عرضةً لأن يميل عن ربّه!. والآن، بعد اليأس، صار كلّه لله؛ لذا ألبسه أبوه الحلّة الأولى، حلّة نعمة التّألّه، المُعدّة منذ الأزل، وجعل خاتم المُلك في إصبعه، وحذاء البنوّة في قدميه، بعدما كان حافيًا كالعبيد!. قد تمّ!.
 تلك كانت معالم طريق العودة: يأسٌ من الذّات بعد خوف، فَضِعَةٌ كاملة بعدما استبدّ به شعور باللّامعنى، المعادل للإحساس الكيانيّ العميق بأنه تراب ورماد، فتوبةٌ من الأحشاء، فثقةٌ بأنّ أباه رحيم، فاتّجاهٌ صوبه بروح الشّعور العارم بعدم الاستحقاق!. لست مستحقًّا، بعدُ، أن أُدعى لك ابنًا، إجعلني كأحد أجرائك!. تلك هي اللّحظة الّتي كان أبوه في انتظارها… منذ البدء!.

   هكذا يخرج الإنسان، كيانيًّا، في التّاريخ، من ذاته المعتمة، عَتْمةَ الموت، إلى النّور، ليستقرّ فيه سلام المسيح، إلى الأبد… “أنا هو، لا تخافوا… هأنذا معكم كلّ الأيّام…”!. مرّتان أَبصرَ فيهما ابنُ آدم اللهَ نورًا، أوّل ما خلقه، ولمّا تاب!. في المرّة الأولى خلقه ربّه من أديم الأرض، وفي المرّة الثّانية من روحه!. تبارك الله!.

الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي
دوما – لبنان
22 تشرين الثاني 2015

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share