كلمة المطران باسيليوس منصور في نشرة البشارة
الإخوة والأبناء الأحباء،
من الحوار بين ربنا يسوع المسيح والشاب، تنفتح بصيرتنا على ناحية مهمّة من نواحي حياتنا الروحيّة. وهي السؤال أو التساؤل المؤدي الى البحث والاستقصاء. فكما هي الحياة العلميّة مستندة على ما يقدِّمه الزمن أي على اكتشافات السابقين وما يكوّنونه من معطيات ويؤكدونه من بديهيات، هذه يحصّلها الإنسان كمخزون علمي يبني عليه للتقدُّم نحو مراحل أفضل أو إذا كان الإنسان من شكٍ من أمره يتأكد بالبحث والاستقصاء والمختبرات حتى يجد جواباً على ما يشغل باله، ويكمل عنده ناحية علميّة كانت بحاجة لتأكيد. وبالتالي لا يوجد إنسان على وجه الأرض هو سبب العلم أو قد أعطى معظم تجلياته بل هو حصيلة تساند المجتمعات البشرية في كلّ الأمكنة والأزمنة.
هكذا هي قوة السؤال وتأثيره في حياتنا الروحيّة. فقد بدأت هذه الحياة منذ أقدم العصور ونمت مع تقدُّم الزمن. فيها يتعرّض الإنسان جماعات وأفراد لحالات روحيّة لا يقدر على الإحاطة بها إحاطة كاملة أو لايستطيع سبغ أغوار خفاياها لوحده. ولهذا “كلَّم الله الآباء بالأنبياء وبطرق كثيرة” كما يقول الرسول بولس في رسالته الى العبرانيين. من يتطلّع ويتأمل في حوادث الكتاب المقدَّس والحكم التي يوردها والأمثال، يجد أنه يعطي خبرة روحيّة متصاعدة. فمن إله كوني له شعب خاص نصل مع الأنبياء شيئاً فشيئاً الى إله كوني كلُّ الناس مدعوون للخلاص ومدعوون أن يتراحموا فيما بينهم وهو إلههم وأبوهم. وكان الكتاب والرسالات السماويّة أجوبة على قلق روحي عند المجتمعات التي كانت تعاني منها. فكان الله هو المبادر للإجابة على تحيّرِ الناس. ولكن الله يترك للناس المشاركة في المبادرة أيضاً ومن هنا كانت الأبوَّة أو القيادة الروحيّة عبر الأزمنة. تميّز فيها أناس كانوا على صدق عظيم هم من ندعوهم بالأولياء والصالحين والقديسين.
الشاب هنا لم يكن مطمئناً فقط لحرفية الناموس وما تعوَّده بل أراد أن يستوثق أكثر وأعمق. في تحيّره قال لأسأل هذا المعلّم الجديد الذي لا يعلِّم كالفريسيين والكتبة. رأى أنه ليس بإمكانه مواجهة قلقه وعدم إرتياحه لوحده فقرر أنَّه باستطاعته القيام بذلك بمساعدة الناصري الذي يشفي المرضى ويطهر البرص ويقيم الموتى ويعنف الذين يدَّعون قيادة الشعب الروحيّة والزمنية ويجعلون أنفسهم أولياء على الكلمة الإلهية. لقد قاده قلقه الى طريق المعرفة الصحيح وهو السؤال عن المعرفة الصحيحة عند العالم بها والمتميِّز بتجرّده عن كل غاية خاصّة وأنانية ويدعو الناس الى التوبة والحريّة.
ولكن للأسف لم يكن الشاب قادراً على تبني الجواب الذي أعطي له. وفي الخبرة الروحية والسعي نحو الكمال يقول الآباء أن الله هو الذي يكمل الإنسان بالطاعة ويباركه ويعطيه من نعمه. فعلى الإنسان إذا وثق بشخص أن يسمع له كما لو من فم الله. إذاً: السؤال والتساؤل في كل المجالات وخاصّة في الحياة الروحيّة هو شيء مهم، كذلك إمكانية قبول الجواب وتبنيه شيء مهم في الحياة الروحيّة ولسعي الإنسان نحو الخلاص، وإلا يبقى السؤال لمجرّد التباهي أو الافتخار بالانتماء لهذا الأب الروحي أو لذلك الدير.
كان الآباء في الأديار يتوجهون الى مسافات بعيدة، الى أمكنة حيث يوجد شيوخ قد تقدّسوا بالنعمة بعد جهاد صحيح واكتسبوا خبرة. وكانت الأسئلة التي يوجهونها قصيرة ويلتمسون أن يسمعوا ولو كلمة بسيطة. سأل مرّة شخص أحد الآباء قل لنا كلمة مفيدة يا أبتي، فقال له الراهب: منذ أن فقدت مرشدي لم أعد راهباً. بهذه الكلمات شرح له كل وضعه وما يعانيه وما هي سبب المعاناة. المثل الشعبي يقول: “كثِّر السؤالات وقلِّل الدّوارة”. وفي الحياة الروحية يجد هذا المثل له تطبيقاً واسعاً وخاصة أن الحياة الروحية جهاد متواصل وصراع ليس مع لحم ودم بل مع قوات الجو غير المنظورة بالنسبة لعيوننا الروحيّة.
في الحياة الروحيّة الكثير من المطبات المبنيّة على ظاهر طيب ولكن يحوي من ورائه وديان سحيقة من السقوط. كالافراط في الصلاة لبعض المبتدئين وغير المتمرنين يسقطهم في الكبرياء. عليهم أن يسألوا قبل أن يبدأوا مثل هذا العمل.
أيها الإخوة الأحباء، يقول الكتاب المقدس إسأل شيوخك فيجيبونك.
نشرة البشارة
29 تشرين الثاني 2015