إنجيل الأغنياء!- الأرشمندريت توما (بيطار)
الغنيّ الطّمّاع، الّذي همُّه الجمع (لوقا 12)، بمَ وصفه الرّبّ يسوع في المَثَل المعروف؟ بـ”الجاهل”؛ لا بمعنى مَن لا يعرف بعقله، لأنّه يعرف أنّ نفسه قد تُطلب منه في أيّة لحظة، ومع ذلك يتصرّف كأنّ ما جمعه ويجمعه كفيل بأن يجعله يتمتّع بخيرات الأرض ما طال الأمد!. حياته، في جهله، من أمواله!. ما وَصَفَ الرّبُّ يسوع الغنيّ الطّمّاع بـ”الجاهل” إلّا لأنّه لا يعرف، بحسّه!. لا قلب له!. نفسه ميتة!. لذلك جهلُه معادل لغبائه، لأنّ الأمر رهن بإرادته!.
الغنى فرصة، تنتهزْها تنتفعْ وتنفعْ، تضيِّعْها تتأذَّ وتُؤذِ!. صحيح أنّك إن أَعطيتَ تنفع المحتاج، تسدّ جوعه إلى الخبز وعطشه إلى الماء وتوفّر لجسده المريض الدّواء!. لكنْ، تنتفع أكثر، بما لا يُقاس، إذا أَعطيت!. العطاء مغبوط أكثر من الأخذ!. تعطِ يُعطِك ربُّك نعمةً، ويَسقِكَ برَكةً، ويُضْفِ عليك رحمة!. المحبّة تستر جمًّا من العيوب!. تعْطِ جسديّات، تأخذْ روحيّات!. وإذا ضيّعتَ الفرصةَ فكأنّك تسرق المحتاجَ حاجتَه فتُلام على آلامه، لأنّك قادر على التّخفيف عنه، وهو أمام عينيك، وما تفعل!. تتجاهله!. وإذا مات فقرًا يُطلب دمُه منك، لأنّك كنت مؤتمنًا على قُوْتِه فاستأثرت به لنفسك!. ما كان بإمكانك أن تُسْعِد به نفوسًا وعيالًا ألقيتَه لخنازيرك الفكريّة، وبعد موتك عَفِنَ، أو ينفقه ورثتك في زنى قلوبهم… وأجسادهم!. أتظنّه أمرًا يسيرًا أن تلقي خبزَك للكلاب والمحتاجُ إلى الكَسْرة ينظر؟!. الموت الجسديّ لا شيء قياسًا بموت الحسّ في الإنسان!. وحشة قلبه تُحيله وحشًا!. نصف سكّان الأرض، ثلاثة مليارات ونصف، محتاجون، فيما يضع الباقون أيديهم، لا سيّما الأقوياء والأغنياء، على أكثر خيرات الأرض. 80% من سكّان الأرض يملكون 20% من خيراتها، و20% يملكون الـ80% الباقية!. هؤلاء يحمون أنفسهم وما لديهم بالنّظم والسّياسة والقوانين وتمويه الشّعارات وتضليل الإعلام… والعسكر!. حقوق الإنسان أكثر الشّعارات زيفًا!. حقّ الغنيّ أن يجمع ما طاب له من خيرات الأرض، وحقّ المحتاج أن يجمع ما طاب له من مستوعَبات بقايا الأغنياء!. المعادلة الفاسدة هذه يحميها القانون!. المهمّ ألّا يتعدّى الفقير على ما من “حقّ” الغنيّ أن يبدّده أو يحصّله بالبورصة، أو على المآدب، أو على التّعظّم والزّنى أو على سائر شهوات النّفس، وأن يحوّل الباقي أرقامًا صمّاء!. المال للغنيّ رقم وللفقير خبز وماء ودواء وألم!. هذه عدالة الموت، مَن تراه يقيم عدالة الحياة؟!.
في الكنيسة الأولى، علامة حضور المسيح، فيما بين المؤمنين به، كانت أنّ مَن له كان يعطي مَن ليس له لتحصل المساواة!. على هذا النّحو، لم يوجد أحد بينهم محتاجًا، كلّا ولا واحد!. هذا كان نموذج محبّة المسيح، للعالم الجديد، في أكباد المسيحيّين!. هذا كان يُفترض به أن يكون خميرًا يخمِّر حفنة من التّلاميذ، وبهم كلّ المسكونة!. لِمَ لَمْ تستمرّ عمليّة التّخمير هذه بعد ألفي عام؟!. لأنّ الخمير، بالأكثر، فَقَد قوّته التّخميريّة، فصار العجين… فطيرًا!. الفقر في العالم؟ المسيحيّون، بالأكثر، هم المسؤولون عنه!. كانت السّمة، بدءًا، أنّهم أحبّوا المسيح لأنّه أحبّهم أوّلًا، لذلك أحبّوا بعضهم البعض وجعلوا الغريبَ قريبًا!. فلمّا صارت السّمة، بالأكثر، أنّهم أحبّوا العالم، ما عادوا يبالون لا بعضهم بالبعض الآخر، ولا بالغرباء!. بات قريبُهم، أو مَن المفترض أن يكون قريبهم، في المسيح، غريبًا، ثقيلًا، وهكذا أشاعوا الغربة، فيما بينهم، شأنهم شأن الغرباء عن روح مسيح الرّبَّ!. صار مسيحهم في مكان ومسيحيّتهم في مكان آخر!. ولكنْ، مسيحيّة بلا مسيح ما نَفْعُها؟!. لا يأتي بك “دستور الإيمان” إلى المسيح إلاّ إذا كانت فيك محبّة المسيح!. يستحيل، بلا محبّة، حبرًا على ورق أو كلامًا في الهواء!.
حيث لا إيمان فاعل بالمحبّة يعود المسيحيّون، بروحهم، وثنيِّين، ومن ثمّ إلى حيث كان اليهود، ليشاركوهم، في صلب المسيح الكونيّ!. التّاريخ، دائمًا، يُستعاد!. على المسيحيّين، إذ ذاك، تنطبق القولة الإلهيّة الّتي قيلت في اليهود: ويأتون [إشارة إلى الأمميِّن الغرباء] من المشارق والمغارب ويجلسون مع إبراهيم وإسحق ويعقوب… أما بنو الملكوت فيُطرحون خارجًا!.
عمن قال الرّبّ يسوع: لم أجد ولا في إسرائيل إيمانًا مثل هذا؟ عن واحد غريب عن أمّة إسرائيل!. قائد المئة!. لمن كشف يسوع لاهوته مباشرةً؟ ولا لواحد من إسرائيل بل لامرأة سامريّة غريبةٍ عن أمّة إسرائيل!. إيمان مَن عظّم السّيّد كما لم يعظّم إيمان أحد من آل إسرائيل؟ المرأة الكنعانيّة الغريبة عن أمّة إسرائيل!. لمن قال الرّسول بولس: الآن أذهب إلى الأمم، إلاّ لمن قاوموه من أمّة إسرائيل؟!. إلى من، تُرى، يسوع يذهب بعدما تقلّصت كنيسته، إلى قطيعٍ صغيرٍ، إلاّ إلى من “يُعتبرون” غرباء عنه؟!. هؤلاء، أيضًا، عيال الله!. هؤلاء هم الّذين فيهم قوّةٌ خام للإيمان بالمسيح، فيما أكثر المحسوبين عليه شاخوا وفتروا وشحَّ بصر قلوبهم، وما عاد لمسيحهم في عيونهم ألقٌ!.
منذ بعض الوقت، وقعتُ على خبرِ شخصٍ “غريب” عن أمّة (!) المسيحيّين، لكنّه ممتلئ قوّةً داخليّة خام، “يصنع حسنات كثيرة للشعب”، نظير كرنيليوس، قائد المئة، الغريب عن أمّة إسرائيل، وصار قدّيسًا في وقتٍ مبكّرٍ من تاريخ الكنيسة!. فقلت هذا واحد ممن لم يسمعوا أنّه يوجد روح قدس، ومع ذلك مهيّأ هو، كالتّلاميذ الّذين التقاهم الرّسول بولس، في أفسس (أعمال 19)، لسماع الكلمة والاعتماد باسم الرّبّ يسوع!. حسُّه قويم لذا ليس بعيدًا عن الإيمان القويم!.
هو أميركي من أصل هندي. اسمه مانوج باهرغافا. وُلد العام 1953. نشأ في الهند. انتقل إلى فيلادلفيا الأميركيّة وهو في الرّابعة عشرة. عاد إلى الهند والتحق بدير (Ashram) هندوسيّ اثنتَي عشرة سنة. تشرّب من روح الخدمة الإنسانيّة. عاد إلى الولايات المتّحدة من جديد. صار رجل أعمال ناجحًا. بلغت ثروته أربعة مليارات دولار أميركيّ. شعر بالقلق!. ماذا يعمل بكلّ هذا المال؟ خصّص 99% منه لخدمة الإنسانيّة. همّه كان البشريّة، بعامّة، والثّلاثة مليارات محتاج في العالم، بصورة خاصّة. ماذا بإمكانه أن يعمل لهم؟ لم يرَ جدوًى في إعطاء النّاس مالاً!. قال: هذا يشبه إلقاء حفنة من الرّمل في المحيط!. السّؤال الّذي طرحه على نفسه كان: ماذا بإمكان المرء أن يعمل لإحداث فرق ذي وزن، يساعد في تخفيف حدّة معاناة البشريّة، لاسيما الفقراء والمتألّمين في العالم؟ الموضوع ليس موضوع مال بحت، ولا موضوع أدمغة!. لا وفرة العلماء تحلّ المشكلة ولا وفرة الأرصدة!. الموضوع هو موضوع أساسيّات تُترجَم اختراعات بسيطة، ولكنْ ضروريّة، تصل إلى كلّ النّاس، وتنفع كلّ النّاس!. المقصود بذلك، خاصّة: توليد طاقة نظيفة بلا حدود، توفير وفرة من المياه العذبة، وتوفير أسباب الصّحة!. لم يستعن مانوج بالخبراء بقدر ما استعان ببعض الهواة الحرفيّين “الأحلاميِّين”!. أنشأ بضع شركات. تمكّن، بعد سنوات قليلة من العمل، إلى الآن، من إحداث اختراقات هائلة في المجالات الخدماتيّة، الّتي اختطّها لنفسه، تشكّل حلولاً، في الحاضر والمستقبل، لا فقط لهموم الفقراء بل لهموم البشريّة جمعاء!.
اخترع، هو وفريق عمله، مثلاً، آلة ميكانيكيّة لإنتاج الكهرباء، لا تحدث أيّ تلوّث، ولا تحتاج إلى قطع غيار تُذكر. جعلوها بشكل درّاجة، يجلس المرء على مقعدها ويديرها بقدميه. يشغّلها ساعة فتعطيه أربعًا وعشرين ساعة كهرباء، تغطّي كامل حاجته المنزليّة. لا وقود، لا تلوّث، ويمكن استعمالها في كلّ مكان. يمكن انتاج أعداد لا تحدّ منها بكلفة زهيدة، وتناسب، بخاصّة، فقراء الأرض، كما تناسب، في الحقيقة، كلّ أحد لميزاتها الفريدة!.
اختراع آخر، يلبّي حاجةً إنسانيّةً أخرى أساسيّة، كان ماكنة تحوّل المياه المالحة، أو المبتذلة، إلى مياه عذبة، تصلح للشرب والرّيّ ولكلّ استعمال آخر، حسب الحاجة، وتُنتِج، في السّاعة الواحدة، ألف غالون من المياه!. هذه، أيضًا، كلفة إنتاجها زهيدة، ويمكن، بوساطتها، انتاج المياه، في كلّ مستوى، من الأفراد إلى المدن!.
أخيرًا، وليس آخرًا، آلة تعرف بالـ”Ecp” أي “النبض الخارجيّ المقابل”، وهي تُشبه سريرًا. تُجعَل أربطتها حول السّاقين كمثل آلة الضّغط، حول الكوع، وتُشغّل. الفكرة أنّ أبرز أساسيّات الصّحة هي انسياب الدّم في العروق. عندك مضخّة طبيعيّة هي القلب. الدّم ينقل الأوكسيجين والغذاء والأوساخ وما سوى ذلك إلى كلّ أنحاء الجسم. لكنّ القلب يتعب ويرتاح، ومع العمر يشيخ. الآلة المذكورة تساعد القلب في ضخ الدّم. فمتى كان القلب يعمل فالآلة تتوقّف عن العمل، ومتى كان القلب مرتاحًا فإنّها تعمل!. هذا يجعل انسياب الدّم على أفضل ما يكون!. تبقى الشّرايين واسعة وغير معرّضة للانسداد!. النّتائج مذهلة: الإنسان يشعر أنّه بصحّة جيّدة ويحافظ، بهذه الطّريقة، على صحّة جيّدة!. هذا حلّ للصّحة ممتاز في إطار تقوية نظام المناعة في الجسم، للحؤول دون تجمّع الأوساخ وتحوّلها إلى أمراض، وكذلك لمحاربة الأمراض!. حلّ مثاليّ لكلّ النّاس، لا سيما الفقراء!.
هذه عيّنة فقط ممّا صُنع وممّا يجري تصنيعه في شركات مانوج. طبعًا، هناك متضرّرون، وهناك سياسة!. هذا لا يمنع أن تكون هذه المقاربة لأساسيّات الحياة هي الحلّ الأمثل لمستقبل البشريّة!. حفاظًا على هذه الأفكار والإنجازات، جُعل مقرُّها في بلد محايد هو سنغافورة، ليتمّ، من هناك، نقلها إلى العالم بأسره، متى حانت السّاعة!.
هذا ليس مشروعًا تجاريًا. ليس المهمّ فيه كيف توظّف أرصدتك لتزيدها كما فعل الغنيّ الغبيّ في المثل. هذا مشروع إنسانيّ بامتياز!. لا فكرة لديّ ما خلفيّات المشروع. تكفيني روح المشروع. هذا مشروع مثاليّ لأصحاب الأموال. الخيار هو بين أن تبدّد خيرات الأرض، عمليًّا، على لا شيء، وأن تنفقها بطريقة تخفِّف فيها من آلام البشريّة!. إذا لم تكن آلام البشريّة هي الهاجس فما المنفعة؟ هذا الكلام فارغ!. سؤالي هو: أين أبناء الكنيسة الّذين يُفترض بهم، تلقائيًّا، أن تكون لهم مثل هذه المقاربة لشقاء أهل الأرض؟!. كأنّ كلمات يسوع تتردّد في الآذان من جديد أنّ غريبًا يعود إليه ليشكره على ما أعطاه إيّاه ربّه، دون أهل البيت: “ألم يوجد من يرجع ليعطي مجدًا لله غير هذا الغريب الجنس؟!.” أين أبناء الإيمان؟!. أليس خزيًا لنا أنّنا نرتحل إلى بلادٍ بعيدة، بحثًا عن روح العالم، فيما “الغرباء” مجدّون في البحث عن روح الله ومن ثمّ عن الفقير؟!. ما هذا سوى ارتداد مخيف تقابله هداية جميلة!. أين كنّا وأين صرنا، وإلى أين المآل؟!.
أمّا بعد، فأُورد كيف ختم مانوج كلامه. سمعته وأنا لا أعرف: أأسمع كلامًا من ذاك الغريب أم كلامًا من بستان الرّهبان؟ قال،
* كلّما زاد غناك كلّما زادت مسؤوليّتك، الّتي هي أن تساعد مَن يعانون، مَن لا سند لهم!.
* كلّما أُعطيت كلّما طولبت.
* ليست هذه لعنةً بل وزنة.
* إذا أُعطيت أكثر يُتوقّع منك أن تعين أكثر.
* هكذا ينبغي أن تكون الأمور. هكذا بكلّ بساطة!.
* إذا كان أعمى يسير باتّجاه بئر، وكان هناك آخر ينظر، فمَن تراه يُلام إذا وقع الأعمى في البئر؟ الأعمى أم المبصر؟!.
مَن تراه ينظر ومَن تراه يسمع؟.
الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي
دوما – لبنان
29 تشرين الثاني 2015