ما بين الواقع والمثال – المطران سابا (اسبر)
يعجبني في المسيحية أنّها مثالية وواقعية في آن. هي مثالية إلى الحدّ الذي تجعل فيه الإنسان، إنْ أراد، كائناً سماوياً، ملاكاً على الأرض؛ وواقعية في رعايتها له، إن ابتغى المثال، كي يتوصل إلى تحقيقه. فهي ترفض الخطيئة وتحاربها من حيث المبدأ، وتتعهد الإنسان الضعيف أمامها بمنهج شفائي يخلّصه منها. ترعاه حتى يتقوّى بالروح، وتسنده حتى لا يقع، وإذا ما فعل، تشدّده ليقوم من سقطته، ويبدأ من جديد.
مثالية المسيحية مشتقة من كلمة “مثال”، بمعنى وجود مَعلَم، قدوة، مستوى واضح، يسعى المؤمن، جهده، بنعمة الله، للتمثّل به. ليست مثاليتها يوتوبيا، أو حلماً، أو مثالاً يستحيل الوصول إليه، وغير قابل للتطبيق. شخص المسيح ذاته هو نموذجها، وقدوتها، ومثالها. وهي تؤمن بأنّ كلمة الله تجسّد، وصار إنساناً، حتّى يمنح البشر القدرة على الوصول إلى مثاله. صار إنساناً كاملاً في كلّ شيء، إنساناً حقيقياً مشابهاً لنا في كلّ شيء، ما عدا الخطيئة.
قال آباء الكنيسة في ميلاده الأرضي: “صار الإله (الكلمة) إنساناً، لكي يصير الإنسان إلهاً”. يسعى المسيحي الحقّ إلى أن يتشبّه بسيّده في كلّ شيء. يعلّمنا الآباء الروحيون أن نفكر، قبل الشروع في عمل ما: فيما لو كان المسيح في مكاني، تراه كيف كان يتصرف؟ هكذا يتشبّه المؤمن، ما أمكنه، بمثاله. كثيرون سلكوا هذا السبيل، وتقدّسوا، وسَمَوا، فصاروا ملائكةً في جسم بشري. كثيرون منهم معروفون، وهم القدّيسون الذين فاح عطرهم في العالم. وكثيرون منهم، وقد يكونون الأكثرية، مجهولون، أو معروفون ضمن بيئة ضيّقة. لذلك تقيم الكنيسة بعد عيد العنصرة، عيداَ خاصّاً لجميع القدّيسين “رجالاً كانوا أم نساءً، معلومين أم مجهولين” (كتاب السواعي الكبير).
أمّا واقعيّتها، فتكمن في المنهج الروحي، الجهادي، الغني، الذي راكمه عمل الروح القدس فيها، على مرّ القرون. يقوم هذا المنهج على تدرّج المؤمن في مراقي الإنجيل، بالإرشاد السليم، القائم أساساً على الإرشاد الشخصي. أمهات الكتب في هذا المجال موجودة ومتوفرة أمام الجميع. ولكنّ عيش ما ورد فيها، ووصول المؤمن إلى اكتساب المقدرة على تطبيقها، يحتاج إلى من يقوده ويرشده شخصيّاً فيها. كتب الأب أندريه سكريما، في بدء مقدمة كتاب “السلّم إلى الله” (وهو كتاب تعليمي، نسكي، روحي، يُعتبر من الكتب القاعدية في الكنيسة الأرثوذكسية): “هذا الكتاب ليس للمطالعة”. وأراد بذلك أنّه للعيش لا للتثقف؛ وعيشه يتم بواسطة مرشد مختَبِر. لا يكفي أن تقرأ لمعلِّم روحي، حتّى تسير، حقّاً، في طريق تعليمه.
البعد الشخصي في الإرشاد أساسي جداً في المسيحية. فالوصفة العامّة، لجميع المؤمنين، هي الإنجيل. وأمّا عيش الإنجيل وتطبيقه، فيكون بحسب قدرة كل شخص وظروفه وشخصيّته وطباعه ونشأته. فليس جميع البشر متماثلين في حياتهم الداخلية. من نشأ في بيئة بيتيّة تقيّة ومجاهدة، يختلف عمّن نشأ في بيئة مغايرة تماماً؛ ومن ترسّخت فيه خطيئة ما منذ الصغر، لا يُداوى بالطريقة ذاتها، التي تُعطى لمن كان متحرّراً من هذه الخطيئة.
ثم هناك النمو في الحياة التي في المسيح. فليس الجميع بالمستوى الروحي ذاته. يوجد متقدّمون، ومبتدئون، وما بين الاثنين. “لما كنتُ طفلاً كنتُ أتكلّم كالطفل وأدرك كالطفل وأفكّر كالطفل. ولمّا صرتُ رجلاً أبطلتُ ما هو للطفل”(1كو13/11).
يروي بستان الرهبان القصة التالية: كان نظام الإخوة في صحراء مصر آنذاك، يفترض النوم على حصير دون مخدّة. أتاهم طالب رهبنة جديد، وكان من وسط غني ومتنعّم. فسمح له الأب الرئيس أن يستعمل حجراً بمثابة مخدّة. فتذمّر أحد الإخوة،فسأله الرئيس: كيف كنت تنام في بيتك يا بنيّ. أجابه: على الأرض مع إخوتي في الغرفة نفسها. فقال له: إذن لم تجد تنازلاً كبيراً في الدير؟ أمّا ذاك الأخ، الذي تشتكي عليه، فكان، في بيته، ينام على سرير، وتحته فراش وثير، ومخدّة من ريش النعام. أتراه يتحمّل تقشفنا دفعةً واحدة؟
يوجد الواقع ويوجد المثال، وما بينهما هو الطريق الذي يستنفذه المسيحي طوال حياته. ليست ثمرة الفضيلة هدفاً بحدّ ذاتها. محبّة الله هي الهدف، والثمرة نتاج طبيعي لها. هدفك الأخير أن تبقى ساعياً نحو الكمال، وصلتَ إلى الكمال أم لم تصل. يقول المعلّم الروحي العظيم يوحنا السلّمي: “لن يحاسبك الله على عدد الفضائل التي حزتها، بل على الجهد الصادق الذي بذلته، حتّى تبلغ هذه الفضيلة أو تلك”. وفي مكان آخر يقول، كلاماً صادماً للوهلة الأولى: إنّ قطرات عَرَق جهادك أثمن، في نظر الله، من ماء المعمودية.
لعل ّواقعيّة المسيحية الرعائية، أكثر ما تتجلّى، في عدم وجود تحديد قانوني باتّ وقاطع، يحدّد للمؤمن ماذا يفعل، تحديداً، في وضع محدّد، وأمام حالة ما يصادفها أو تصادفه. ما من تعليم، عامّ أو خاصّ، يريح الضمير، على غرار إفتاء ضميري. أنت أمام استلهام دائمٍ لروح الله، روح الفهم الحقّ، لكي ينير دربك، فتعرف كيف تسلك وتتصرّف أمام حالات، لا يمكن عدّها، قد تعترضك.
خذ العلاقة الزوجية مثلاً: ما من تعليم محدّد بخصوص كيفية تعامل الزوجين مع بعضهما، في كلّ المناحي. مفهوم الحياة الزوجية واضح مسيحيّاً. لكن كيفيّة عيشه،ومدى تحمّل كل شريك، وطريقة الحبّ الحاضن التي تستوعب عيوب الآخر، وغيرها من الأسئلة الكثيرة، تصبح مدار بحث وحوار.هذه تحتاج إلى انفتاح صريح بين الزوجين، برعاية مرشدهما الروحي، الذي يساعدهما، عملياً، على تخطي سقطاتهما وتجاوزها، عبر رعاية شخصية روحية متواصلة. رعاية تقبل الضعف القائم، وتنطلق منه، لتتجاوز الشخص وتقوّيه. وهي لا تعفي من فروض التوبة ممّا تعتبره الكنيسة ضعفاً بشرياً، تداويه حتّى تشفي الإنسان منه. كثيرة هي القضايا المسلكية أو المعتبرة ضمن علم الأخلاق، التي ليست محل بتّ قطعي في المسيحية، بقدر ما هي مدار حوار وصلاة واستلهام من فوق.
ما من مبرّر، يريح ضميرك كليّاً، يمكن اللجوء إليه مسيحياً. أنت مدعو إلى مواجهة قوى الشر الروحية، التي تتجسّد بأشكال لا تحصى، في هذا العالم الساقط، بالتسلح بإنجيلك، واستدرار الإرشاد الإلهي، وطلب المشورة من الكبار روحياً، والتقوّي بإخوتك في الرب. وإذا ما أخطأتَ، تغذّي حياة التوبة في شخصك، مكفّراً عمّا فعلت، ومجدِّداً حياتك ،وموجِّهها نحو نضج ووعي روحيين، أرسخ وأعمق.
يعرّف القدّيس أفرام السوري الكنيسة ب”جماعة التائبين”، أي السائرين.مسيحياً لا يمكنك إهمال التوبة يوماً واحداً. فأنت تسير فيها، مرتقياً بروحها، يوماً فيوماً، نحو البلوغ إلى قامة ملء المسيح. ليست المسيحية ديانة ساكنة، بمعنى الاكتفاء بما يُسمّى واجبات دينية. هي طريق تسير فيه على الدوام نحو الذرى. هي ديانة ديناميكية، إن أردت، لأنّها لا توقفك عند حدّ معيّن من السمو والنضج والقداسة، بل تفتح الأمداء أمامك واسعة إلى المطلق، إلى الله، حتّى تتشبه به، وترقى إلى مثاله.
إن أحببت ربّك بصدق، ترمي ذاتك بين يديه، غير باحث عن راحة الضمير، بقدر ما تبغي العيش في كنفه. تسير، دون توقف، معه وإليه، مكتفياً به وحده، وواجداً ذاتك فيه.
30 تشرين الثاني 2015