نحن و الآباء – المطران سابا (اسبر)

mjoa Monday December 14, 2015 180

نحن و الآباء – المطران سابا (اسبر)

ثمّة تياران، بخصوص آباء الكنيسة، يتساجلان بعنف على الأرض الأنطاكية، وربما في غيرها من الكنائس. واحد يقول باتّباعالآباء في كلّ أمر، ويعتبر أي خروج عن تعليمهم، أو تفسير جديد لأقوالهم، وحتّى مواجهة التحديات الإيمانيةالجديدة، ضرب من الانحراف الإيماني والخروج عن استقامة الرأي والأرثوذكسية. لا بل يصل بعض أتباع هذا التيار إلى اتهام من يخالفونهم بالهرطقة. أمّا التيار الآخر، فيعتبر نفسه حداثياً، عصرياً، لا حاجة به إلى الآباء، ينظر إليهم كما إلى شيء عتيق، بال، من الماضي، أو علامة مضيئة في التاريخ. يركّز أتباع هذا التيار على الراهن ومعطياته وتحدّياته. وينفتح على التعليم اللاهوتي في الكنائس الأخرى، ضارباً بالتراث الكنسي الثري عرض الحائط.

abaaتيّار يعظّم الآباء، وآخر لا يعطيهم أهميّة. ترى أيّهما الصحيح؟ في الحقيقة، الاثنان مخطئان، لأنّهما ينطلقان من مسلّمات غير صحيحة، ويقصران آباء الكنيسةعلى الماضي فقط، ويهملان استمرار عمل الروح القدس، واستمرار فعله التقديسي في المتنقين والمستنيرين والمتألهين.
بدءاً، من هم الآباء؟ إنّهم معلّمون كبار يوجدون في الكنيسة، ويساهمون في تثبيت الإيمان المستقيم، أو مواجهة الهرطقات. هم مُعتَبرون قديسين في الكنيسة،لأنّهم يقرنون بين الرقي الروحي وحياة الفضيلة والاستنارة، وبين العلوم، اللاهوتية منها بخاصّة. حصّل الكثير منهم علوماً دنيوية رفيعة، وضعوها في خدمة الإيمان المستقيم. فأغنوا التراث المسيحي وركّزوا أسسه اللاهوتية. واجه آباء الكنيسة تحدّيات أزمنتهم، الإيمانية والاجتماعية. علّموا وعملوا. لذلك تعتبر الكنيسة تعليمهم كنزاً لا غنى لها عنه. ويشكل كمّاً كبيراً من التقليد المقدّس الشريف، عمل الروح القدس في الكنيسة.
قرنوا جميعاً حياة القداسة بالعلوم اللاهوتية. ما كان آباء الكنيسة منظّرين، وإن شرحوا وفسّروا، وغالى بعضهم في هذا المجال أو ذاك. ما كانوا أصحاب مدارس فكرية فلسفية ولا لاهوتية حتّى. ما انطلقوا من الفكر الفلسفي الذي أتقنوه، بل وضعوه في خدمة الإيمان، وطوّعوه للتعبير عن الحقيقة، التي وجدوها في المسيح. تكلّموا بلغة تناسب زمانهم. فالكنيسة بحاجة إلى أن تشرح الإيمان وتفسّره، لكل جيل باللغة التي يفهمها، وهذا ما برع فيه الآباء.
قد نجد عند بعضهم، خاصّة البعيدين زمنياً عنّا، لغة نستصعبها، أو أسلوباً لا نستسيغه، أو مواقف لا تتناسب مع مفاهيمنا العلمية أو الاجتماعية أو السياسية الحاضرة. وهذا يعود إلى اختلاف الأساليب والنظريات والمفاهيم والتحديات بين زمننا وزمنهم. والحقيقة أنّنا لا نستطيع التكلم عنهم بالجمع، لأنّهم ليسوا كتلة واحدة في كلّ شيء. فكلّ منهم يحمل لغة زمنه ومفاهيمه وعلومه وعاداته وثقافته. وقد يختلفون في موقفهم من قضية كنسية ما، وهذا حدث مراراً في التاريخ الكنسي، لكنّهم لا يختلفون في أساسيات الإيمان. لنتذكر الموقفين المختلفين اللذين اتخذهما كلّ من بولس وبطرس الرسولين، وكيف وجدا الحل له.
حصل في روسيا القرن الخامس عشر، سجال كبير بين القدّيسين يوسف ونيلس، إلى درجة دُعي رهبان، تلك الفترة فيها، إمّا يوسفيون أو نيلسيون. وكانت نقطة الاختلاف متمحورة حول ملكية الأديرة. هل يحقّ للرهبان أن يمتلكوا أراضي ومؤسسات أم لا. اليوسفيون قالوا بحقّ التملك من أجل وضعها في خدمة المجتمع الفقير، أمّا النيلسيون فرفضوا حرصاً على روح الفقر الرهباني، والتجرّد الكامل الذي نذروه.
تكمن براعة الآباء وقداستهم في تأهيل ذواتهم لعمل الله بحرية فيهم، وفي قدرتهم على إعادة تبشير أهل زمنهم بالإنجيل الحق، أو في ما نسميه اليوم ب”الأنجلة”. وهي كلمة مشتقة من “الإنجيل”، وتعني غرس الإنجيل في المجتمع الحالي، أو ما اصطُلِحَ على تسميته باللغة اللاهوتية، هنا والآن. فالكنيسة مدعوة، في كلّ زمان ومكان، إلى أن تستعمل لغة القوم، الذين تبشرهم بالإنجيل وتفسّره لهم.
يقصر بعضهم زمن الآباء على القرون الثمانية الأولى. ليس هذا هو التعليم الأرثوذكسي على الأقل. لأنّه، ببساطة، يعني أنّ الروح القدس توقف عن العمل بعد القرن الثامن. وهذا ليس صحيحاً. فالله لا يزال حاضراً في كنيسته، وسيبقى فاعلاً فيها إلى دهر الداهرين. ولم يبخل الله على كنيسته مرة بآباء قديسين يفتقدون البشر بالتعليم القويم والغذاء الروحي الحقيقي. وهكذا نرى السلسلة مستمرة من أيام الرسل والقديس أغناطيوس الأنطاكي في القرن الأول وصولاًرإلى صفروني زاخاروف (+1993)، الذي لم تعلن قداسته رسمياً بعد.
وإذا مادرسنا كلّ أب على حدة، وقارنّا بين تعليم اثنين،عاشا في زمنين مختلفين، سوف نجد مضموناً إيمانياً واحداً، وأسلوبين مختلفين في التعبير عن هذا المضمون الواحد. بالتأكيد سوف يواجه أب في قرننا الحالي ما لم يواجهه آباء القرون السابقة من تحدّيات. فالقضايا المطروحة اليوم، ما كانت كذلك في القرون السابقة، ولنأخذ أمثلة عليها: علاقة الكتاب المقدس بالثقافات القديمة، وقضايا العلوم الإحيائية، والنظريات السياسية والاجتماعية، والتغيرات الأخلاقية، وما إلى ذلك. لقد بدأت البشرية بعد القرن السابع عشر طريقة جديدة في التعاطي العقلي، وتطور العلم كثيراً منذذلك الوقت حتى الآن، وطبع هذا التطور العلمي العقل الإنساني بأسلوب نقدي في التعاطي مع أيّ شيء. ومن يهتم بالتعليم يتوجب عليه أن يأخذ هذه المعطيات بعين الاعتبار، لكي يصون الإيمان ويحفظ المؤمنين ويهدي البعيدين.
ألا يجب أن تتعاطى الكنيسة مع التحديات المعاصرة، فقط لأن الآباء القدماء ما تكلّموا عنها، كونها ما كانت مطروحة في أيامهم؟
ليست المشكلة هنا، بقدر ما هي في طريقة التعاطي مع اللاهوت. ما انفصل الكلام اللاهوتي عن المعاينة الإلهية في الكنيسة، الأرثوذكسية تحديداً. لذلك فإنّمقولتها الأساس هي أنّ”اللاهوتي هو الذي يصلّي”. فعندما يتقدّس الإنسان، ويجتاز مرحلة التنقية، ويبلغ الاستنارة، يسكن في الله، ويعبّ من نوره الذي يضيء ذهنه، لكي يعبّر عنه بالأسلوب المناسب لزمانه. وإذا ما علّم من لم يستنر بعد،فإنّه يستند إلى تعليم المتقدّسين، ويسير على دربهم التقديسي. ليس التعليم اللاهوتي نمطاً فكرياً خاصّاً. فالكنيسة ليس مدرسة فلسفية. الأمر مشابه لمن تكلّم عن الحبّ لأنّه ذاقه وعرفه واختبره.
لقد اقترنت حياة النسك والصلاة عند الآباء بموهبة التعليم والإرشاد والتفسير، فكان ما قدّموه، ومازالوا يقدّمونه للكنيسة والعالم، نتاج خبرة حيّة، وليس تنظيراً فكرياً، متأثراً بهذا المذهب الفلسفي أو ذاك.
فالأمانة للآباء تفترض بنا أن لا نلجأ إلى “تقميش” تعاليمهم، أي لا نأخذ، من تعاليمهم، قولاً من هنا وآخر من هناك، لكي نثبت فكرة نعتقد بها، أو ندحض موقفاً نعتبره منحرفاً، بل نتعاطى معهم بما يسمّيه لاهوتيو كنيستنا “الذهن الآبائي” أو “السياق الآبائي”. فالكنيسة “آبائية” بمعنى أنّ تعاليم آبائها قاعدة أساسية لفهم لاهوتها وروحانيتها وطريقة تفكيرها، ولذلك لا غنى لها عنهم. عِشرَة الآباء تعني التمثّل بعشرتهم للمسيح وحياة الفضيلة، التي عاشوها،والعَبّ الكثيف من تعليمهم.
عندما تحيا بحسب روح الكنيسة الحقّ تكتسب حسّاً أو نَفَساً، أرثوذكسياً، أو سمّه “آبائياً” إن شئت، تنظر بواسطته في كلّ شيء، وهو ينذرك بخطأ هنا أو هناك. لكن هذا لا تكتسبه بمفردك، بل ضمن الجماعة الكنسية التي تحيا وإيّاها الوحدة الإيمانية. فالجماعة تحفظك من التطرّف أو الإفراط، وتالياً تساعدك كي تبقى على الاستقامة.
7 كانون الأول 2015

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share