في اللاهوت – المطران سابا (اسبر)
ليس التكلّم بالإلهيات عصارة تفكير عقلاني، وتأمل ذهني، وتنظير فكري، في الماورائيات. للعقل دور في صياغة اللاهوت والتعبير عنه، لكنه ليس موجداً له أو منشئاً أو مكوناً، وإنما معبّر عن الخبرة الروحية ومفسِّر وشارحٌ لها. اللاهوت كشف إلهي، كشف الله لذاته بذاته، وذلك لمن تنقّت عيونهم الروحية، وصارت قادرة على استيعاب نوره الإلهي.
تُشتق لفظة اللاهوت من اسم الله. الكلام في ما يختصّ بالله يُدعى كلاماً في الإلهيات، ويُسمى علم الإلهيات أو اللاهوت. فاللفظة ذاتها تحمل معناها. والذي يتكلّم عن الله إنّما يتكلّم عمّن عرفه. لا يمكن لإنسان أن يتكلّم عمّا لا يعرفه. في اللاهوت المعرفة ليست عقلية، بل كيانية. حتّى تكون لاهوتيّاً حقاً، عليك أن تعرف الله لأنّك تعاشره، وتتخلّق بأخلاقه، وتتمثّل بصفاته، وتسعى في طريق حفظ وصاياه؛ تحادثه، تبثّه همومك وآمالك وأفعالك، وتبتغي رضاه، وهو يبادلك نعمه وعطاياه وملاطفاته.
تقول إنّه محبّ، لا لأنّك قرأت ذلك في الإنجيل فقط، بل لأنّك اختبرت محبّته وذقتها. من هنا يعتبر الشرق المسيحي أنّ اللاهوتي هو الذي يصلّي. أي الذي يعاشر الله معاشرة صدوق. كما يركّز اللاهوت المسيحي الشرقي، بالأخصّ، على ثلاثة مراحل لا بد منها للوصول إلى معرفة الله: التنقية أو التطهير، والاستنارة والتألّه. تبدأ جهادك الروحي بالتطهر من خطاياك وأهوائك وعيوبك، بالتحرّر من كلّ ما يعيق فضائلك. هذا، تساعدك النعمة الإلهية في تحقيقه. يلاطفك الله ويمنحك نوره، ويقيمك فيه فتتألّه. آنذاك تتكلّم عن الله لأنّك عاينت نوره، وعرفته شخصياً.
هذا يصل إليه الكاملون، وهم قلائل. لذلك يكتسب تعليمهم مصداقية يؤيّدها الروح القدس بطرقه الخاصّة، ويسير على هديها المؤمنون. تكلّمنا في المرّة الماضية عن آباء الكنيسة، ونتابع الكلام هنا بلغة لاهوتية، فنقول في الإنسان قوتان: عقلية وذهنية. تسمى الذهنية باللغة اللاهوتية “النوس”. وهو أعلى قدرة يدركها الذهن، ومركز لقاء الذهن بالنعمة الإلهية. إذن منح الله الإنسان القوة العقلية والقوة النوسية. من وصل، من الكاملين، إلى اتحاد نوسه بالله، وصل إلى معرفته تعالى، فإن امتلك عقلاً ثاقباً يمتلك الأدوات الثقافية اللازمة للتعبير عن خبرته الروحية هذه، ويعبّر عنها تعليماً أو كتابة.
امتلك آباء الكنيسة القوتين: العقلية والنوسية. فالأمر ليس مجرّد دراسة جامعية، أو الحصول على شهادة في اللاهوت. دراسة اللاهوت كما تتمّ اليوم، في أحسن الأحوال، هي اهتداء بما وصل إليه كبار الروحيين من تعليم إلهي. السائرعلى دروب اللاهوت، يهتدي بمن سبقه من الكاملين، ويقتبل بتواضعٍ تعليم الكنيسة المحفوظ بأمانة منذ القديم، والحيّ دوماً بخبرات الكبار المعاصرين. فتعليم الكنيسة ثمرة للكشف الإلهي، الذي عَبَرَ فيه قديسوها وآباؤها الروحيون.
فلنستعرض سريعاً كيف ظهر ما قلناه بخصوص الإلهيات، في عمل الله مع البشر، بدءاً بالأنبياء القدماء وصولاً إلى آباء اليوم.
فقد دُعي أنبياء العهد القديم “رائين” و”جماعة رؤى”، لأنّهم كانوا يخبرون بما يطلبه الله منهم. فتراهم يكرّرون التعابير التالية: “وكانت إليّ كلمة الرب” و “قال الرب”، “يقول الرب”. فهم مجرّد ناقلين لما يطلبه الله منهم.
أمّا القديس يوحنا الإنجيلي، الذي عاين مجد تجلّي ربّنا يسوع المسيح، فيقول في رسالته الجامعة الأولى “الذي سمعناه ورأيناه بعيوننا، الذي تأمّلناه ولمسته أيدينا، من كلمة الحياة، والحياة تجلّت فرأيناها، والآن نشهد لها ونبشّركم بالحياة الأبدية… الذي رأيناه وسمعناه نبشّركم به” (1يو1/1-3).
بينما الرسول بطرس، الذي حضر التجلّي أيضاً وشاهده، ولم ينسه. فيشرح لقرّائه، في رسالته الأولى بأنّه عرف قوة وحضور الرب برؤية إلهية، أنعم الله بها عليه: “فما اتّبعنا خرافات ملّفقة حين أطلعناكم على قوة ربّنا يسوع المسيح وعلى مجيئه، لأنّنا بعيوننا رأينا عظمته… سمعنا نحن هذا الصوت آتياً من السماء، وكنّا معه على الجبل المقدّس”(2بط1/16-18).
أمّا الرسول بولس فيستعمل خبرته الشخصية (رؤية الله) ليؤكد رسوليته “أَمَا أنا رسول؟ أَمَا أنا حرّ؟ أَمَا رأيت يسوع ربنا؟(1كو9/1) “سافرت إلى دمشق وبيدي سلطة … وفي الطريق عند الظهر، رأيت أيها الملك نوراً من السماء أبهى من شعاع الشمس يسطع حولي وحول المسافرين معي. فوقعنا كلّنا إلى الأرض، وسمعت صوتاً يقول بالعبرية: شاول شاول لماذا تضطهدني؟”(أع2612-13).
“أعرف رجلاً مؤمناً بالمسيح خُطف قبل أربع عشرة سنة إلى السماء الثالثة. أبجسده؟ لا أعلم. أم بغير جسده؟ لا أعلم. الله يعلم. وإنما أعلم أنّ هذا الرجل خُطف إلى الفردوس: أبجسده أم بغير جسده؟ لا أعلم. الله يعلم. أعلم أنه خُطف إلى الفردوس وهناك سمع كلاماً لا يقدر بشر أن ينطق به ولا يجوز له أن يذكره. أمّا هذا الرجل فأفتخر به، وأمّا أنا فلا أفتخر إلا بضعفي”(2كو12/2-4).
وإذا ما انتقلنا إلى القرن الرابع، نجد أنّ القديس غريغوريوس اللاهوتي، في ردّه على بدعة أفنوميوس، التي قالت بمشاركة الإنسان في معرفة جوهر الله، ليؤكّد عدم قدرة الإنسان على معرفة جوهر الله، وإنما قدراته فقط. ويروي خبرته الصوفية هكذا “صعدت إلى الجبل… ودخلت الغيوم… وانسحبت من كلّ شيء مادي… وركّزت انتباهي بقدر المستطاع … ثم بدا لي سرياً “قفا” الله أي، تجسّد الكلمة…” ما رأى جوهر الله وإنّما “مظهر الله الخارجي” أي قوى الثالوث القدوس التي تصل إلينا.
أمّا القديس سمعان اللاهوتي الجديد، في القرن الحادي عشر، فيشير في كتاباته إلى رؤية النورغير المخلوق، الذي مُنح بنعمة الله أن يراه.
“بالنعمة اقتبلت النعمة، بعمل الصلاح تلقيت اللطف، بالنار كوفئت بنار، بالشرر بشرر. حالما صعدت فأُعطيت صعودات أخرى، وفي نهاية الصعود أُعطيت نوراً، وبالنور نوراً أكثر إيضاحاً… بقي تفكيري متجاوزاً الفهم، وبقيت في هذه الحال فيما أنا أبكي بحلاوة فائقة وأتعجب بما لا يوصف. فالعقل الإلهي يتحادث مع عقلي ويعلّمني”
وإذا وصلنا إلى القديس غريغوريوس بالاماس (القرن الرابع عشر) في مواجهته لهرطقة برلعام، الذي أنكر التعليم حول قوة الله غير المخلوقة المؤلهة، فنرى أنّه يستعمل عبارات من الكتاب المقدس والتقليد ويرفقها بخبرته قائلا: ” تعلّمنا هذه الأمور من الكتاب المقدس ومن آبائنا كما عرفناها من خبرتنا المتواضعة …”
وفي عصرنا الحالي يقدّم الأب صفروني زخاروف، تلميذ القديس سلوان الآثوسي، شهادة أخرى في هذا المجال. فقد استحق أن يعاين خبرة كشف إلهي قبل أن يطلّع على كتابات الآباء القديسين، وقد سجلها في أواخر حياته تقويةً لأبنائه الروحيين، والبشر عموماً، بخصوص الاعتقاد بأنّ المسيح هو الله حقاً، وأن هدف الجنس البشري هو التألّه والشركة مع الله في النور غير المخلوق. صاغ خبرته مع الكشف الإلهي في كتاباته، وفي كتاب “معاينة الله كما هو”، بالأخصّ.
جدير بالذكر مدى تشابه كتاباته في هذا المجال مع كتابات القدّيس سمعان اللاهوتي الجديد.
نستنتج أن القضية كشفاً إلهياً متواصلاً. بدأ فعلياً في التاريخ مع ابراهيم، واكتمل في يسوع المسيح، وما يزال يتواصل في المتطهرين بنور الروح القدس. فإذا ما قلنا إن عصر الآباء مستمر فلا نقصدن من حمل منهم شهادة رفيعة في علم اللاهوت، بل من تطهّر واستنار وتابع، على خطى الأقدمين، كشف خبرته الإلهية، بلغة معاصريه، تأكيداً لاستمرار حضور الله وفعله في العالم.
15 كانون الأول 2015