حول السينما الدينيّة – المطران سابا (اسبر)
مع انطلاق السينما، وانتشار المسلسلات التلفزيونيّة، راجت ظاهرة إنتاج الأفلام الدينيّة، واختلفت طريقة مقاربة الحَدَث الديني المُصَوَّر بحسب جهة الإنتاج، التي تقف وراءه، وتعدّدت جهات الإنتاج، مع تطور الفن السابع، وبلغ فنّ التصوير السينمائي تطوّراً تقنيًّا وصل إلى حدّ الخيال. ولأنّ الأمور الدينيّة تشكّل أحد الميادين الهامة عند البشر، على اختلاف أديانهم ومذاهبهم، فمن الطبيعي أن يلحق الفن التمثيلي بالمواضيع الدينيّة ، لدوافع مختلفة.
ككلّ فنّ، يُستَخدَم الفنّ الديني لأغراض التبشير، والتعليم، والتوثيق، وترويج الاعتقاد الذي تنادي به الجهة التي تقف وراء إنتاجه. الحيادي نادر، خاصّة في هذا الميدان. وقد وصل الأمر، في زمننا الحالي، حدّاً باتت فيه هيئات، خاصّة، وعامّة، ورسميّة، تتبارى في تقديم هذا النوع من الفنّ، لأنه يجتذب عدداً وافراً من المشاهدين، ويدغدغ مشاعر المتدينين عموماً. فبتّ لا تكاد ترى شاشة تخلو، من حين إلى آخر، من هذا النوع من ملامسة قضايا دينيّة، خاصّة في هذه الأيام الرديئة، التي باتت مخاطبة المشاعر الدينيّة رائجة فيها على نطاق واسع.
لطالما كان الدينان، المسيحي والإسلامي، حذرين تجاه تصوير المشاهد الدينيّة، خاصّة، تلك التي تصوِّر مؤسس الدين والشخصيّات الرئيسة فيه. في حين يلقى تصوير المواضيع التاريخيّة والفكريّة والفنيّة قبولاً أفضل. لكن هيمنة الصورة، عموماً، على الثقافة الحديثة، وسهولة الإنتاج، بسبب التقدّم التقني، الذي لحق بهذا الفنّ، وعودة طرح الدين حلّاً للكثير ممّا يعانيه إنسان اليوم، وتناول الشركات الفنيّة الخاصّة للمواضيع الدينيّة، وحريّة تناولها، حسبما يرى أيّ إنسان، وتلقّف الشرقيّين للنتاج الأجنبي، كما هو، دونما فحص أو تدقيق، بات أمراً يستجلب إشكالات وانفعالات ومواقف مؤثّرة، وخطيرة في بعض الأحيان، خاصة في المجتمعات المتديِّنة المتعدّدة الأديان والمذاهب.
يخفّف التصوير كثيراً من روح التقوى والتخشّع، الذي يوليه المؤمنون أهميّة كبرى. فحين يرى المؤمن الشخصيّات التي يبجّلها ويسمو بها إلى العلا، متجسّدة في شخص ممثّلٍ (أو ممثّلة)، وتحمل ملامحه ونفسيّته، مهما كان بارعاً في أداء دوره، فإنّه لا بدّ من أن يُصاب بخيبة، ولو للوهلة الأولى. ناهيك عن مرافقة صورة الممثّل لمخيّلته، وتأثيرها على صفاء صلاته.
لا شك في أنّ التعرّف إلى شخصيّة أيّ نبيّ أو رسول، وإلى تعليمه، بواسطة الفن التمثيلي، لا يسمح للمشاهِد بالدخول إلى عمق هذه الشخصيّة ومعرفتها بدقّة. الفرق شاسع بين التعرّف على رواية عالميّة من الكتاب أو من السينما. فوصف المشاعر، والمواقف، والتحليل النفسي، ووصف الدوافع وما يعتمل في النفس البشريّة، لا يمكن أن يوجَز في ساعتين أو أكثر، ولا يمكن أن يُنقَل بالغنى ذاته، الذي ينقله قلم الكاتب أو المؤلّف.
كذلك، يلزم الفن التمثيلي الديكور، والأزياء، والموسيقى، والحركات، والإثارة وما إليها من تشويقات تجذب المشاهِد. هذه عندما توضع في خدمة فيلم دينيّ، فإنها تُستعمَل بما يخدم وجهة نظر المنتِج أو المخرِج، وقد لا تكون مناسِبة، ولا صحيحة، لا بل قد تكون مزورة ومزيّفة مرّات كثيرة. كما أنّ مشاهدة الفيلم ليست كقراءة الكتاب؛ فتبقى الصورة منطبعة في ذهن المشاهِد، المحصور بوقت العرض المحدود، وتلعب في مخيّلته، بما قد يؤذي إيمانه وموقفه الروحي أحياناً. كذلك تنشر الصورة الخاطئة مفهوماً مغلوطاً عن العقيدة التي يمسّها الفيلم.
يشكِّل كلّ من السينما والتلفزيون حقلاً واسعاً لإدخال الأفكار، التي يريد المنتِج ترويجها، من خلال إنتاجه هذا. ولا يسَع جميع المشاهدين متابعتها أو التنبّه إليها، أو معرفة زيفها. تنطبع هذه الإدخالات في ذهن المشاهدين، فيصدّقونها، معتبرينها حقيقيّة، بينما قد تكون عكس ذلك تماماً.
دونك بعض الأمثلة.
في فيلم أميركي حول زيارة ملكة سبأ لسليمان الحكيم، ينتهي الفيلم بوداع الملكة، فيما يوصيها سليمان بابنهما الذي في بطنها. مع أنّ هذا الخبر لم يرد في القصّة الكتابيّة. واللبيب من الإشارة يفهم المغزى.
ترد في مسلسل المسيح الإيراني، الذي تبثه إحدى الشاشات المحليّة، تعاليم وأقوال للسيّد المسيح، وكذلك قصصاً عنه، مستقاة، غالباً، من التراث الإسلامي بنسخته الفارسيّة. أيّاً يكن الأمر، فهي لم ترد في كتب الإنجيل الأربعة، التي تعرفها المسيحيّة. فهو قراءة إسلاميّة لشخص المسيح.
في فيلم إيطالي عن العذراء مريم، بثّته محطة دينيّة مؤخراً، يُصَوَّر يوسف الشيخ شابّاً وسيماً، بينما التراث المسيحي يعتبره متقدّماً في السنّ. كذلك يصوِّر الفيلم السيّدة العذراء، وهي ترقص معه في حفل خطوبتهما!!!!
والأمثلة في هذا السياق أكثر من أن تُحصى.
يُعتبَر الإنتاج السينمائي وسيلةً واسعة الانتشار لبثّ الأفكار الخاصّة والخاطئة، وتشكيل الانطباعات المزيَّفة، وتوجيه الرأي العام بشأن أيّ موضوع، لا في الدين فقط، بل في السياسة والتاريخ والأخلاق وغيرها من حقول الحياة الكثيرة. لنذكر فيلم تجربة المسيح الأخيرة، والضجة التي أثارها. إنّه تصوير سينمائي لكتاب يحمل العنوان ذاته، كتبه أديب مشهور، في القرن العشرين، قضى حياته يتساءل حول الصراع بين الإنسان الشهواني والإنسان الروحاني، وبين الجسد والروح. أسقط مفاهيمه الخاصّة، الناجمة عن نزاعه الرئيس هذا، على شخص المسيح باعتباره إنساناً فقط. بينما مئات الملايين من البشر يؤمنون به إلهاً متجسّداً.
بات الإنتاج السينمائي، في الغرب، كباقي الفنون، خاضعاً لمبدأ حرية التعبير المطلقة، ولكن جهات كبرى تتحكّم فيه، وأحياناً، منتِجون ملحدون، يقدّمون رؤاهم ومواقفهم من الدين. فإن أراد أحد أن يشوّه ديناً ما، أو أن يدعو إلى معتقد ما، فيمكنه إدخال ما يناسب هدافه، من صور و كلام و موسيقى، …إلخ، في سياق الفيلم. ولا يتورّع الكثيرون منهم عن اتّباع أساليب كاذبة، وغير حقيقيّة، في سبيل نشر أفكارهم.
يحتاج المؤمنون في زمن الدعاية الطاغي هذا، الذي نحيا فيه، إلى أن يكونوا صاحين، ومتيقّظين، وناقدين لكلّ ما يرونه، حتّى يكونوا أحراراً من هيمنة الصورة السينمائيّة، ومن تأثيرها، سلباً، على معتقداتهم. إذا عرفنا ما بلغه دور الصورة، التي توليها الدعاية، اليوم، أهميّة عظمى، واعترفنا بصعوبة تمييز الصحيح فيها من الكاذب، وعلى الأخصّ في مجال الدعاية الإخباريّة، سيصير الوعي المطلوب حاجة عظمى.
خلاصة الكلام، إن التصوير التمثيلي للقضايا الدينيّة غالباً ما يكون مشوباً بمغالطات، مقصودة أو غير مقصودة، يجب إعمال النقد الجدّي فيها، لا مشاهدتها ببساطة وسذاجة. لا يمكنك حماية نفسك من المغالطات بإسكات صوت غيرك، وإنما بتنمية معرفتك، وبالبحث الدائم عن الحقيقة.
11 كانون الثاني 2016