ذهنيّة جديدة – المطران سابا (اسبر)
تعليقاً على المقالة السابقة، سألني بعض الأصدقاء توضيحاً للقيود، التي كنتُ قد دعوت إلى تحطيمها، كي لا تعيق عمل لله فينا. كما سألني آخرون: “لماذا تكتب في المفاهيم، وقد تكون قابلة لتفاسير شتى، ولا تكلمنا بأسلوب عملي؟”. شكرتهم وأجبتهم بأني سأحاول الإجابة في المقال التالي.
القيود هي:
– التشبثُ بكثير ممّا نشأ في الأوساط الكنسية، ولم يعد، حاليّاً، تعبيراً طبيعياً وصالحاً عن الإيمان والغيرة الرسولية، اللذين كانا الدافعَ إلى نشوئه. فالكنيسة جسدُ المسيح الحيّ، وليست متحفاً؛
– والتعاطى مع قضايا الإيمان وانعكاساتِه في الحياة اليوميّة، وتجسيده في الأعمال، التي يدعونا إلى القيام بها، بذهنيّةٍ خشبيّة تخشى كل جديد، وتالياً كلّ تجدّد، فتتمسّكُ بالقديم لمجرّد أنّه قديم؛
– والحفاظ على ما اعتدنا عليه دون فهم، ودون معرفة لجوهره ومضمونه وهدفه، والاهتمامُ بالشكل، وعدمُ الاكتراث بالجوهر، والرضى بالموجود، على علّاته، والارتياحُ له، وعدمُ الطموح إلى الأكمل، ورفضُ النقد البنّاء للواقع، بغيةَ الوصول إلى أفضل سبلِ عيشِ الإنجيل، وتطبيقاتِه العملية، التي تناسب الزمان والمكان، اللذين نحيا فيهما؛
– والروحانية الجامدة، التي تخدّر الضمير الشخصي والكنسي، وتبرّر التقصير بأعذار شتّى، مما يؤدّي إلى وأد التطلع إلى الأمام، والاكتفاء بما في اليد: فالإنسان الذي لا يشتعل حبّاً لخلاص البشرية، لم يذق شيئاً من نَفَس المسيح؛
– والانغلاق على المجتمع الذي نحيا فيه، وعدم مواجهة التحدّيات المنهمرة علينا من كل حدب وصوب، وتقديسُ الماضي، على الرغم من المتغيّرات الهائلة في كافة مجالات الحياة؛
– والخوف من الابتكار والخلق، واعتبار زمن عمل الروح القدس قد انتهت صلاحيتُه، وتالياً اجترارُ اللغةِ ذاتِها، والمفرداتِ ذاتِها، والمنطقِ ذاتِه الذي استعملناه منذ قرون، على الرغم من إدراكنا لعدم صلاحيته، وعدم وصوله إلى الأكثرية الساحقة من الناس، خاصّة جيل الشباب؛
– والتوقف عن الاجتهاد، وعدمُ طرح السؤال، والتهرّبُ من المواجهة، بذريعة الغبطة الناجمة عن الاستغراق في الممارسات “الروحيّة” والاجتماعيّة المعتادة، وما تبثّه فينا من مشاعر تقودنا إلى الانفصال عن الواقع، ما لم نكن على درجة عالية من اليقظة الروحيّة.
***
إذا أخذنا أعمالَ المحبّة الموجودة في أوساطنا مثالاً، فماذا نرى؟
اعتدنا، انطلاقاً من المفهوم الاجتماعي الذي كان سائداً، بخاصّةٍ، في القرنين الماضيين، على القيام بما اصطُلِح على تسميته ب”العمل الخيري”. هذا كان قائماً، بشكل كليّ، على توزيع المساعدات المادّية، على اختلافها، على المحتاجين، ومن كان يُطلق عليهم مصطلح “العائلات المستورة”. كان عملاً خيريّاً مقتصراً على الإحسان.
وعلى الرغم من تطور مفهوم العمل الإنساني، الذي انبثق من رحم المحبّة المسيحيّة، التي لا تكتفي بالإحسان، بل تدعو إلى الرحمة والاحتضان والتشارك، لم تواكبْ هيئاتُنا “الخيريّة” كما يجب، هذا التطور، ولم ترتقِ بخدمتها إلى تبنّي سياسة التنمية والتأهيل فرديّاً وجماعيّاً.
تبنّت جميع الهيئات الخيريّة العالميّة شعار “بدلاً من أن تعطي الجائع سمكة، أهّله ليصطادها”. أمّا معظم هيئاتنا فما تزال تعمل بالأسلوب القديم، وتخافُ التجديد. ولذلك عجزت عن أن تكون على مستوى التحدّي المطروح عليها. تراها تشكو، دوماً، من نقصٍ في التمويل والتبرعات، وتراها في خوف من العجز عن الاستمرار.
ترى في الأبرشيّة الواحدة هيئات عديدة تعنى بالمحتاجين. ولكن ما من تعاون في ما بينها، وما من تكامل أيضاً. فيضطر المحتاج إلى الطلب، بذلّ ومهانة، من معظم الهيئات الخيريّة للحصول، حتّى، على ما قد لا يكفيه!! لماذا لا تتعاون هذه الهيئات مع بعضها بعضاً، بغية تأمين حصّة “شبّيعة”؟ ما العوائق التي تمنعها من العمل المشترك، لكي تتكامل خدماتها، فتتولّى إحداها تأمين الغذاء، وتتفرّغ أخرى للاستشفاء وثالثة للطلاب …إلخ؟ لماذا لا تبادر إلى إنشاء ورشات تأهيل صغيرة، تنمو وتكبر، مع الزمن، لتؤمّن تأهيلاً شخصيّاً للمحتاجين، ودخلاً للهيئة ذاتها؟ هل يُحمد الاستثمار الهادف في كلّ مكان إلا في الحقل الكنسي؟
اعتدنا على تغذية العمل الخيري من التبرعات، وإقامةِ بعض الأنشطة الاجتماعيّة، التي يعود ريعها لتمويل أعمال المحبّة، كالحفلات أو المعارض وما إليها. توقفت هذه الأنشطة في كثير من المناطق، بسبب الأوضاع الأمنيّة والاقتصاديّة المستجدّة. ألا يتوجب، على العاملين في هذه الهيئات، التفكيرَ والسعيَ إلى وضع استراتيجيّةٍ جديدة تتجاوب والتحدّيات الاقتصاديّة المستجدّة؟
درجت العادة على استقبال المغتربين عندما يزورن مسقط رأسهم، وطلبِ معونات مادّية منهم. أمّا إقامة تواصل دائم وشفّاف معهم، فليس أمراً مطروحاً بعد!! أما آن الآوان للتعاطي معهم، لا بهدف مادّي فقط، بل بهدف تنمية تواصلهم مع كنيستهم الأم، واستمراره؟ الحديث عن المغتربين وتقصيرهم يطول، ولكن من يمكنه اليوم أن يساند أهله أكثر منهم؟ ولماذا لا تكونُ لنا جرأةُ تغييرِ هيكليّاتِ مؤسساتنا الإداريّة، بالشكل الذي تؤمّن فيه دوراً خَدَميّاً فعّالاً للاستفادة من طاقات المغتربين، فنضمن التجديدَ المستمرّ لتلك المؤسسات؟ ما هي الجماعات التي تأسّست، حديثاً، لتساهم في معالجة الأوجاع الطارئة على الأرض الأنطاكيّة؟ أما يزال الكثيرون، للأسف، يعيقون ظهور هيئات خلّاقة جديدة؟ أليس لأنهم يعتقدون بأن ما يقومون به كافٍ، وما من حاجة إلى جديد؟ كم هو كثير الغبار، الذي نحتاج إلى إزالته عن عيوننا وقلوبنا وعقولنا، حتّى نستعيدَ نبض الإنجيل وحيويّته وإبداعاته؟
ألا نجد، في بعض المناطق، اندفاعاً محموماً وغير عقلاني، نحو بناء الكاتدرائيّات؟ ألا توجد عندنا مغالاةٌ في تزيين المعابد وتجميلها؟!! هل نحن متأكدون من أنّ ما يحصل، هنا وهناك، لمجد الله، لا لمجدنا الشخصي؟ ألا نشهد استعادة مظاهر طقسيّة تبلغ حدود الترف؟ مظاهر جميلة أوجدها ذوق زمن معين، لكنّنا اعتبرناها مقدّسة لمجرّد أنها تأتي من الماضي!! في زمن يموت الناس فيه جوعاً يطالبنا الإنجيل بوضع ما عندنا في خدمة المحتاجين؛ هياكل الله الحيّة، لا الحجريّة.
ألا يعتقد الكثيرون، أنّ خلاصهم يكمن في قيامهم ببعض الممارسات الدينيّة، بمعزل عن خدمة المحبّة، و”سرّ الأخ”؟ كم يصحّ فينا قول القدّيس يوحنّا الذهبي الفم: “أنت تزيّن جدران المعبد، فيما المسيح يموت برداً على الطرقات”!!
ترى، هنا وهناك، لغةَ وعظٍ رتيبة، وبشارةً مضجرة، غير قائمتين على خطاب مفهوم ومعزٍّ، ومتحسّس لمعاناة شعب الله، ومنطلق منها؟ هل تعليمنا الديني يأخذ بعين الاعتبار مساعدة المؤمنين على عيش الإنجيل في حياتهم اليوميّة؟ أم إننا مكتفون بالاجترار؟ هل نفتح أمامهم آفاقاً تعليميّة وعمليّة لربط أخلاقهم وسلوكهم بتعليم الإنجيل؟ ألا يهزنّا أن كثيراً من أبنائنا ناشطون عند غيرنا، لأنّهم وجدوا أبواباً مغلقة، وعقولاً متحجّرة، وقلوباً باردة عندنا؟ هل من داعٍ لنكمل، فنتكلّم عن السياسة الرعويّة والوقفيّة؟!…
كم نحتاج إلى التمثّل بالقدّيسين والقدّيسات الذين عاشوا المحبّة، وعرفوا كيف يعيشون الإنجيل “هنا والآن”، بدلاً من التغنّي بهم!!
15 شباط 2016