في التوبة – المطران سابا (اسبر)

mjoa Tuesday March 1, 2016 214

في التوبة – المطران سابا (اسبر)

تخيف لفظة التوبة الكثيرين، لأنّ النظر في الذات صار أمراً غير مُستَحَبّ، إن لم يكن غير ذي أهميّة، في حياة الناس، في هذا الزمن. لا يريد إنسان اليوم المشرقي،خاصّة، أن يرى عيوبه ونقائصه. يرغب بأن يكون ممدوحاً من الجميع، ومكرَّماً في كلّ آن ومكان. يوجد في داخل كلّ إنسان طاووسٌ مخفيٌّ،

لا يُراد له أن ينكسر، ولو كان وهماً وسراباً. يُزين للإنسان أن الخيلاء تسند صاحبها، نفسياً على الأقل، ويريد لعناده أن يوهمه بحسن ذاته وجودتها، فيقتنع بأنّه لا يعرف الخطأ، ويرتاح إلى تبرير ذاته، بإلقاء اللوم على الآخرين. لسان حاله يقول”إنّهم من أخطأ ويخطئ”،وفي أحسن الأحوال، “لستُ من بدأ بالسوء”. يقول لنفسه: “لقد اضطررت إلى حماية نفسي، ووضع حدّ لشرّهم”! هكذا يتعامى الإنسان عن نقد ذاته، فتنمو عيوبه وتتجذّر فيه، ما يجعله يهرب من المجلس، الذي يتكلّم عن التوبة وما إليها، أو يصمّ أذنيه عن كلام من هذا القبيل.
saba-espإلى ذلك، يعتقد كثيرون، خطأً، بأنّ التوبة تعني ندماً وتأسفاً وحزناً وما إليها،بينما هم يطلبون الفرح والسرور والابتهاج. فلماذا يُقبلون على ما يكدّر صفو عيشهم؟! ولماذا يطالبون أنفسهم بما يزيد من تعبهم؟! لقد ارتبطت التوبة، في أذهانهم، بما علق فيها من تنشئة مغلوطة، وتعاليم خاطئة، وتأثّر بالروحانيّة،التي زخر بها أدب الغرب، بشكل خاصّ، في القرون الوسطى، ونقلتها، إلى شرقنا، الثقافة الغربيّة السائدة، مشوَّهَة ومفرطة في الغلوّ، جاعلة إياها قصاصاً كريهاً، قائماً على الإماتات والكآبة والتخويف وتعذيب الجسد واحتقاره.
تُعتبر التوبة، في المفهوم الأرثوذكسيّ، ولادةً جديدة، وحمّاماً روحيّاً يغسل الإنسان من الداخل ويطهّره. هي تقويمٌ ذاتيٌّ دائم، ووعيٌ مستمرّ لعدم البقاء في الخطيئة والخطأ، ونهوض متواصل من كلّ سقطة، وامتداد لا يتوقف نحو العلى. إنها حالة عاشق يهيم بعدم البعد عن الله، معشوقه.
يبدأ الإنسان بعيش التوبة عندما يعي أنّه يتيم، وخارج البيت الأبوي. هذا يعبّر عنه مَثَل الابن الشاطر بوضوح. فعندما خسر الابن المتمرّد كلّ ما لديه، من مال، وتالياً من صحبة رفاق السوء، وصار في الفقر والفاقة، أضحى أمام ذاته، ورجع إليها، فتذكّر بيت أبيه، وحنّ إلى العزّ والكرامة اللذين كانا له بصحبة أبيه. خلّابة هي الدنيا بشهواتها: إنّها توهِم الإنسان بسعادة منشودة، لكنّها في الواقع وقتيّة ومخيِّبة وسطحيّة. تختفي بهجة هذا العالم سريعاً، أمام أيّ شدّة أو ضيق.
لكن قسوة قلب الإنسان، الناجمة عن تشبّثه بأمل الحصول على ما يتوق إليه، من سعادة، إلى جانب عدم معرفته لخبرة فرح العيش مع الله، تدفعانه إلى خطيئته ثانية، التماساً منه لتعزيةٍ ما، فيهم لما ينمّي، فيه، الألفة مع لله، وطيب معاشرته. يتعلّق الإنسان عموماً، بالأحرى، بما هو ملموس ومحسوس. لكنّ الله، الكليّ الرأفة، يسمح لنا باختبار الشدائد، أحياناً كثيرة، حتّى ندرك وهمَ ما نحن فيه، ويمنحنا إمكانيّة التحرّر منه، بحرّيتنا، فنعرف بيتنا الحقيقي، كما عرفه “الابن الشاطر”.
ما لم يختبر الإنسان ذلّ بعدِهِ عن بيته، وانعدام السلام، الذي يتوق إليه، الناجم عن خطيئته، فإنه لن يطلب بيت أبيه بصدق، وتالياً، لن يختبر فرح التوبة وغناها.
يعرّف الرسول بولس التوبة، مسيحيّاً،هكذا: “أنسى ما هو ورائي، وأمتدّ، بكلّ قوتي، إلى ما هو قدّامي”(فيلبي3: 13). تركّز الكنيسة الأرثوذكسيّة، في تعليمها عن التوبة، على وجهي التوبة المتلازمين: النسيان والامتداد، النهوض والانطلاق. فهي لا تقف عند الخطايا، بل تتجاوزها إلى الفضائل.لعلّ أجمل ما قيل في التوبة، جاء على لسان القدّيس يوحنّا السلّمي: “إنّها استبدال عشقٍ بعشق: استبدال عشق الأرضيّات بعشق السماويّات”. لذا ترى أنّ الذين عرفوا الله، من بعد عيش بعيد جداً عنه،قد اختبروا التوبة بعمق عظيم، لا يتمتّع به، عادةً، كثيرون ممّن يعتبرون أنفسهم، على غرار “الابن الكبير” في المثل الإنجيلي، داخل البيت.
لكن هل ينسى الإنسان ما لا يعيه ولا يعرفه؟ من هنا كانت العودة إلى الذات ومراجعتها وفحصها، هي الدرجة الأولى في حياة التوبة. هذه العودة، عندما تكون دائمة،تولّد، مع الزمن، يقظةً روحيّةً دائمة، تقيم الإنسان في حالةٍ من النباهة المتوقّدة، التي تجعله يتحسّس، برهافةٍ،التأثيرات السلبيّة للخطيئة،التي يفعلها،سواء كانت فعلاً أو قولاً أو فكراً.آنذاك يسارع إلى طرحها، واستبدالها، بما هو معاكس لها، أي بالفضيلة التي تقابلها.
هكذا يتقدّم الإنسان في مراقي الحياة الحقّة. تصعد حياة التوبة السلّم الإلهيّ درجةً درجة، حتّى يصل من يحياها، بالمسيح، إلى ملء الحياة، ووفرتها.ليست التوبة فعلاً مستقلاً عن حياة الإنسان، له زمنه ووقته ومتطلّباته، ومن ثم يُتَمَّم وينتهي الأمر. لا، فهي مسيرةُ حياة، أو إن شئتَ، نمطُ حياة، يتكثّف، أحياناً، حول جانب محدَّد، تستدعيه الضرورة للتركيز عليه، لكنّها لا تتوقّف عنده ولا تنتهي به. إنّها حياةُ يقظةٍ واعية سلاميّة، مدرِكة لواقعها، ومتطلِّعة، أبداً، نحو تخطّيه. هي حياةٌ منفتحةٌ على الله والناس والطاقات الروحيّة، والإنسانيّة المتألهة. إنّها حياة لا ترضى بالواقع، بل ترقى به، في كلّ حين. تراها متوثِّبةً، باستمرار، حتّى تصل إلى ملء قامة المسيح. مثال العائش حياة التوبة كلمة بولس الرسول: “أستطيع كلّ شيء بالمسيح الذي يقوّيني مع الآب والروح”.
29 شباط 2016

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share