الحداثة في خدمة التخلّف – الأب جورج مسوّح

mjoa Wednesday March 2, 2016 158

الحداثة في خدمة التخلّف – الأب جورج مسوّح

يتأكّد على مرّ الوقت أنّ التخلّف على صعيد الخطاب الدينيّ يزداد في أوطاننا العربيّة كافّة. وعوض أن يتقدّم الفكر الدينيّ مع تقدّم العلوم والتقنيّات وانفتاح الثقافات بعضها على بعض في عصر باتت سمته العولمة وتبادل كمّيّات هائلة من المعلومات، نراه يتقهقر إلى مجاهل التطرّف والتكفير، وإلى قاع .

mshصحيح أنّ التقنيّات التي وفّرها الإنترنت فتحت الباب أمام جميع الإيديولوجيّات، من أديان ومذاهب وأحزاب وسواها من الأمم والجماعات، كي تبثّ فكرها وتروّج معتقداتها. غير أنّ التطوّر العلميّ لم يؤثّر كثيرًا على الفكر الإيديولوجيّ، وبخاصّة الدينيّ منه، المنتفع من هذا التطوّر. فلو فتحنا صفحة من الصفحات الدينيّة على الإنترنت، ولا سيّما صفحات الفايسبوك، أو تابعنا إحدى الشاشات الدينيّة، لوجدنا أنفسنا وقد عدنا حتمًا قرونًا إلى الوراء، فالمعلومات المتوافرة قديمة، خشبيّة، مهترئة، صفراء، منقطعة عن جميع سياقات العالم المحيط بنا اليوم.
ويسعنا القول إنّ هذا التطوّر العلميّ، شاء أم لم يشأ، يسهم مساهمة فاعلة في ترسيخ الجهل الدينيّ وتوسيع مساحته. وإنّها لمفارقة حين يعتقد مستعملو التقنيّات العلميّة أنّهم لمجرّد تغيير وسيلة التبليغ يتقدّمون إلى الإمام. المشكلة ليست في الوسيلة بل في مضمون ما يقدّمونه على هذه الوسائل التي أتاحها لهم تقدّم العلوم. فالوسيلة تقدّمت، أمّا مضمون الخطاب فلا يزال على حاله، إن لم نقل إنّه يتقهقر، إذ يغلب انتقاء الأسوأ وتقديمه على الأفضل. فما فائدة التكنولوجيا إذا كان الخطاب الذي تحمله منقولاً في جملته من الكتب القديمة، من دون أيّ إضافة منهجيّة أو نقديّة تحترم السياق الراهن والظروف القائمة؟
لن يفيد التقدّم التكنولوجيّ شيئًا إذا كانت آليّات طرح الموضوعات والأسئلة والإجابة عنها هي ذاتها لا تتغيّر ولا تتبدّل. ولن يفيد هذا التقدّم إذا كانت الفتاوى والاستشارات الروحيّة التي تصدر ردًّا على تساؤلات معاصرة لا تقدّم جديدًا نافعًا، بل تستعيد حرفيًّا ما غبر من آراء كان لها قيمة في عصرها لكنّها في غالب الأحيان ليست ملائمة لعصرنا. ولن يفيد هذا التقدّم إذا كان الخطاب الدينيّ لا يخاطب العقل، بل يحاكي الغرائز ويسايرها، ولا يحثّ على التفكير بل على البلادة الذهنيّة. فلكلّ سؤال جواب جاهز، ولا داع لإجهاد النفس وإعمال العقل فثمّة مَن فكّر قبلنا وترك لنا أجوبة تدوم إلى قيام الساعة.
ينبغي، إذًا، أن يكون التقدّم العلميّ حافزًا لأهل الأديان كي يؤسّسوا خطابًا دينيًّا جديدًا ومتجدّدًا يتلاءم مع روح العصر. ففي لحظة يتّجه فيها العالم إلى عصور ما بعد الحداثة، ما زال الفكر الدينيّ يرتع آمنًا في عصور ما قبل الحداثة. وإذا كان تفاخر أهل الأديان يدفعهم إلى الزعم بأنّ أديانهم أخرجت الناس من عصور الظلام والجاهليّة إلى النور والمعرفة، فلمَ هذا الخوف من استنباط منهجيّات وآليّات وأصول حديثة تستند على تطوّر العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة عبر القرنين الفائتين، في سبيل إنتاج فكر جديد يتواكب مع هذه المعرفة المتسارعة التي لا يقابلها لديهم، إلى اليوم، إلاّ التباطؤ كي لا نقول المراوحة في المكان ذاته؟
إنّ رواج الصفحات والبرامج الدينيّة على محطّات الإنترنت وصفحات الفايسبوك والشاشات الفضائيّة والأرضيّة العربيّة لا يعني البتّة أنّ ما يُقدّم عليها يساهم في رقي مَن يتابعونها، بل يمكننا القول إنّ تلك الوسائل تسهم إلى حدّ كبير في تعميم الجهل، والله أعلم.
ليبانون فايلز
 02 آذار 2016

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share