ويلٌ لمن تأتي على يده العثرات – المطران باسيليوس (منصور)
الإخوة والأبناء الأحباء،
اليوم يوم القول الفصل في معاني الصوم كما يخبرنا القديس بولس الرسول: “يا إخوة إن الطعام لا يقرّبنا إلى الله، لأنا إن أكلنا لا نزيد وإن لم نأكل لا ننقص، ولكن انظروا أن لا يكون سلطانكم هذا معثرة للضعفاء… إن كان الطعام سيشكك أخي فلا أكل لحماً إلى الأبد لئلا أشكك أخي”.
إذاً غاية الصوم هو الآخر، وغاية الحياة المسيحية إلى جانب القداسة أن نقود الناس إلى ملكوت السموات عن طريق عيشنا الفضيلة، واتباعنا الطريق المستقيم. فنصبح جماعة القديسين الوارثين لملكوت السماوات، وليس جماعة التائبين عن أخطائهم. بل جماعة الممتدين إلى الأمام إذ يضعون يدهم على المحراث فلا يلتفتون إلى الوراء.
لأنه بإلتفاتة واحدة إلى الوراء من يستطيع أن يدرك عظيم الأخطار التي تعصف بالشخص في حالة العمل الفردي، أو في المجتمع في حالة العمل الجماعي. لم يقل الرب الويل للمخطئين، بل قال الزناة واللصوص يسبقونكم إلى ملكوت السماوات، وأبناء الملكوت يُطرحون خارجاً. هذا ما قاله للذين جاؤوا يجرّبونه من اليهود. إلى جانب العطاء المادي. هناك العطاء المعنوي لمن هو بالمسؤولية. فلو لم يكن الفريسيون أصحاب مسؤولية إلى جانب رؤساء الكهنة، والكهنة والصدوقيين، لما قامت عليهم الخطيئة بهذه الشدّة “لأنهم لو لم يعرفوا لما قامت عليهم خطيئة، ولكن لأنهم يعرفون فخطيئتهم مضاعفة”.
فالخطيئة متنوّعة، وتُحسب على أساس الشخص ومجتمعه وإمكانياته.
وبحسب مكانة الشخص يكون تأثيره في المجتمع. فإذا كان إنساناً عادياً يكون تأثيره ضعيف جداً، ولا يستطيع أن يغيّر شيئاً، وإذا كان من أصحاب سُلطة معيّنة فتأثيره السلبي أو الإيجابي يكون شديداً في نواحي سُلطته، وأذهان المرتبطين فيها. وقد يكون سبباً في انتشار كمية هائلة ومدمِّرة من الفساد، وبتصرّفاته ينقض طرقاً للفضيلة إحتاج الناس لسفك دمائهم لتثبيتها. فببعض الكلمات، وبعض التصرفات يدمِّرُ أخلاق مجتمع كامل.
مسؤولية الإنسان المسيحي عن مجتمعه، لا تتوقف على تحمله مسؤولية إداريّة معيَّنة لأن كل إنسان مسيحي مسؤول عن ذاته، وعن مجتمعه بطريقة معيّنة.
يقول لنا الرسول بولس: “كونوا مستعدين دائماً لتجيبوا عن الرجاء الذي فيكم”. المسؤولية هنا مسؤولية الفرد تجاه ذاته، وأمام الأخرين. من يهتم في هذه الأيام بالوقوف في وجه التساؤلات المنهمرة علينا من كل حدب وصوب، والتي تمس جوهر إيماننا، وبالتالي خلاصنا. إذا سألنا شخص عن إيماننا، ووقفنا أمامه ضعفاء فكيف ستكون ردة فعله؟ هل نستطيع بعدم المعرفة تحويل فكره أم سنترك في ذهنه أثراً سلبياً حول إيماننا وسيعتبر أنه إيمان سطحي أو أسطوري.
هذه ناحية، الناحية الثانية العملية المتعلقة بالآخر. ينطق الناس كثيراً باسم المسيحية والحريّة فيها، ويقلبون المفاهيم رأساً على عقب، حتى صار الإيمان المسيحي في بعض البلدان متعلق فقط بالسماويات، وتركزت صوَرُه في الأذهان كإيمان ما ورائي لا علاقة له بهذا العالم. بينما يطالبنا السيد له المجد بالالتزام الأخلاقي الصارم الذي لم تتعرّف عليه أيّ من الشعوب “من نظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى في قلبه”. في الوصايا العشر “لا تشتهي امرأة قريبك، ولا ثوره، ولا حماره، ولا شيء من مقتنياته”. الوصايا الحاضّة على الالتزام الأخلاقي العملي، كثيرة. فمن لا يعرف هذه التعاليم وغيرها، ويتكلم عن المسيحيّة ألا يظهرها بمظهر الضعف تجاه المجتمع، ألا يصبح ضعف الإنسان المسيحي، المعرفي سبباً في عدم إستقامة معرفة الآخرين، وبالتالي تصرفاتهم.
المسيحيون مسؤولون في مجتمعاتهم، وعن التزامها، وعليهم ابتكار أفضل الطرق التي تعكس عظيم محبة الله للناس، ومدى قوّة الفداء الذي قدّموه لهم. فهل يصبح المسيحي بسبب ضعفه في المعرفة، وبسبب تهاونه في تطبيق ما هو في ذهنه، عثرة في طريق خلاص الآخرين.
في هذا المجال تروى قصص وحوادث كثيرة، وبعضها قد وصلنا من عمق التاريخ. فلولا اجتهاد المسيحيين في إيصال إيمانهم إلى الناس، واهتمامهم بتطبيق هذا الإيمان لما انتشرت المسيحيّة في زمن الاضطهادات.
حاول الإمبراطور تراجان أن يصنع من استشهاد القديس أغناطيوس معثرة للكنائس، ولكن حامل المسيح هذا جعل من مسيرة استشهاده سبباً في تحدّي المؤمنين للإمبراطور ولسلطته الغاشمة فرافقه كثيرون من أبناء الكنائس في أسيا الصغرى إلى الاستشهاد فتقوّت الكنائس بعزيمته وشدّة إيمانه وصبره، فجاءت النتيجة عكس ما أمل الإمبراطور من إرساله سيراً إلى روما مارّاً في آسيا الصغرى.
من جهة ثانية ينبهنا الرسول بولس في رسالته اليوم: “… لأنه إن رآك أحد، يا من له العلم، متكئاً في بيت الأوثان فيهلك بسبب علمك الأخ الضعيف الذي مات المسيح لأجله”. هذا صحيح لأن الدرجات الروحيّة ليست واحدة بل تختلف بحسب ما أدركه الشخص. الرسول بولس يقول لنا أن الأوثان ليست بآلهة (لأن الله واحد)، ولا توجد آلهة أخرى، ولكن هذا اليقين، وهذه المعرفة من يستطيع فهمه غير الثابتين في العلم. ألم يمنع الله تعالى في العهد القديم من عمل منحوتاتٍ وصور،ٍ ولكن عندما عرف الناس أن لا إله غيره سمح لهم، بعد أن حصلوا على المعرفة المقدّسة أن يقيموا منحوتات وصور ورسومات، وذلك إما لإعلانات مستقبلية، أو لاستفادة روحية. فالمعرفة ليست مجرّدة عن شروطٍ أهمها إدراك قوّتها بالنسبة للمتلقي ومكوناته وطبيعته وثقافته. ألم يقل لنا السيد: “لا تلقوا درركم أمام الكلاب، ولا جواهركم أمام الخنازير كي لا تعود فتدوسكم”.
الإنسان يجب أن لا يعثر بالحريّة التي اكتسبها بالمعرفة. من يستطيع أن يتحدّث عن بعض تصرفات القدّيسين ولا يتعثّر مثلاً المتبالهين بالله. علاقة النساك بأهلهم والعالم. اختباءهم في الوديان والمغاور من وجه العالم ومغرياته. لقد صاروا عند ضعاف المعرفة عثرة، ولكن ليسوا هم المسؤولون عنها، بل عدم تحرك الطرف الآخر نحو المعرفة الصحيحة. فلا يخاف من يعرف معرفة صحيحة أن يعيشها بمحبّة حتى في المجتمعات المتهاونة لأن عليه أن يكون النور حيث هو، والملح بين الجماعة التي يعيش بين ظهرانيها. قد يطالبه المجتمع ببعض التراخي لأنه بمقياسه شديد على ذاته أما المجاهد المترقي في مراقي القداسة فعليه أن يصيّر الأرض سماءً، ويرفع الناس للاقتداء بالله فيصبح توبيخاً للمتهاونين والمنافقين لا معثرة بل وفخراً لمن يحبون الله.
هذا ما أتضرّع من أجله إلى الله أن يهبكم البصيرة النيّرة لتعيشوا إيمانكم بالقول والعمل وبهمة تليق بالاسم الذي دعيتم عليه اسم كلمة الله، ربنا يسوع المسيح. اذكروا المحتاجين والفقراء والأيتام، بهذه يفتخر الله بكم أمام ملائكته الذين في السماوات، “واذكروا الكنائس التي في سوريا” لأنها ممتحنة بجهاد عظيم كما لو بنار. وأتمنى أن لا تغلقوا آذانكم عن هذا النداء.
أتمنى لكم صوماً مباركاً وأياماً سلامية لكم، ولكل عائلاتكم والمختصين بكم.
نشرة البشارة
06 آذار 2016