الصوم غدًا – المطران جورج (خضر)

mjoa Thursday March 10, 2016 166

الصوم غدًا – المطران جورج (خضر)

الصوم الذي نباشره غدًا مدّته أربعون يومًا لأنه يبدأ الإثنين من الأسبوع الأوّل وينتهي سبت اليعازر، ولا يُحسب منه الأسبوع العظيم المقدّس الذي يشكّل صومًا مستقلًا في شدّته ونظام صلواته.

fasting1لقد ظهر هذا الصيام في النصف الثاني من القرن الثالث غالبًا في الكرسي الأنطاكيّ، ومنه اتّخذته الكنائس الأخرى كما أخذت من عندنا كثيرًا من العبادات. تتوالى الشهادات عن الصوم منذ القرن الرابع. ولا شكّ أنّ تأسيسه يعود إلى النموذج الذي تركه لنا السيّد بصيامه أربعين يومًا، وكان الربّ يكرّر تجربة موسى وإيليَّا اللذين أَمسكا أيضًـا هذه المدّة.

هدف جهادنا في هذه الأيام الأربعين ان نتشبّه بجهاد الرب يسوع وان نتّخذه شرعة لنا. انه متأصّل في أقدم وصية لله «لا تأكلا» أُعطيت في الفردوس قبل السقوط. فالأكلة الأُولى المحرّمة صارت سبب الموت للجنس البشري، وبدلاً من موهبة الحياة التي رفضها الإنسان ورث الموت والغربة عن النعمة. لقد عصى الإنسان الأوّل فمات، وأطاع الإنسان الثاني، أي الربّ يسوع، تكميلاً لطاعته للآب. صام السيّد ليُنقذنا من العصيان الذي دشّنته أكلة. في كلّ ذلك محورنا المسيح. انه هو المنبسط في وسط صيامنا، واليه نذهب كلّ يوم فيه.

فالطعام بحدّ ذاته لا يزيدنا برًّا ولا يَنقُص به برّنا، ولكنّه يعني انه كما كان الطعام رمز الحياة، وكما كان حرمان الطعام رمز الموت، هكذا إذا صُمنا عن أشياء هذا العالم نموت عند أهل العالم، ولكنّا بعد ذلك نذوق الطعام الإلهي أي الحياة في الله.

ان هذا الإمساك كلّه لا يُجدي ما لم يقترن بالتّوبة والصلاة والتنكّر للشهوات. «الصوم قهر لرغبات الجسد، ابتعاد عن الأفكار الشرّيرة، تحرّر من التخيّلات المذنبة، طهارة للصلاة، نُورٌ للنفس، يقظة للعقل» (سُلّم الفضائل، القديس يوحنا السُلّمي). الاقتران بين الإمساك الجسدي والإمساك الروحي اختبرته الأجيال البارّة والصالحون اليوم. فالصلاة العميقة غير ممكنة بلا إعراض عن الشراهة، بلا تعفّف. الحرّية من وطأة الطعام بداءة الحرّية الروحيّة.

ثم ان الصائم يفتح نفسه للروح القدس لأنه لا يمسك الاَّ بعد أن قرّر ان يلتزم الله. يجعل نفسه مستعدًا للرضاء الإلهي إذا انسكب عليه. يعرف وجهته. كذلك يعرف انه يصوم مع كل الأرثوذكسيّين في العالم. انه لا ينعزل عن الإخوة ولا ينقطع عن الاشتياق إلى الفصح في كلّ جمالاته ومعانيه. انه واحد مع الأجيال التي سبقتنا في نضال القداسة، ومع الأجيال المقبلة وكأنّنا إنسان واحد يصوم.

في هذا تواضُع لأننا نُقرّ في صيامنا أنّنا بحاجة إلى ضبط النفس وقمع الهوى. يدّعي الكثيرون انهم ليسوا بحاجة الاَّ إلى صوم اللسان. هذا شأنهم لأنهم لم يذوقوا المواهب الإلهيّة التي تنزل على الصائمين، ولا يعرفون فرح الممسكين وتصاعُدهم على معارج النُسكْ. لقد منعنا آباؤنا أن ندين من لا يصومون، وسيقبلهم الله في فرح القيامة، ولكن ليس عليهم ان يتبجّحوا أو أن يُسيئوا إلى فكرة الجهاد الروحي الذي نلجه منذ يوم غد.

الصوم واجب على كل أعضاء الكنيسة، ولا يجوز التحرُّر من الواجب أو التخفيف منه الاَّ عند الضرورة وبكل وقار. لكن ذلك يتطلب استئذانًا شخصيًا من الأب الروحيّ الذي يعرف ضعفنا وأوضاعنا الصحيّة وأحوالنا في العمل.

إن من عضَدَه الرب بنعمة الصيام يعرف مشاركة الفقراء. يعرف قباحة التُخمة في هذا المجتمع الاستهلاكيّ الذي يُنتج السِلع ليربح البعض ويموت الكل بسبب الجسد المنكبّ على لذّات لا تفنى. فالحياة الروحية إحساسٌ بوجود الآخرين وبالدرجة الأولى بأهمية المعوزين ومَن حرَمَهم الظلمُ من الحدّ الأدنى في معيشة كريمة. الصوم شهادة ضد من يحرم سواه، وشهادة على حقّ الناس جميعًا بالطعام والكساء والمأوى والدراسة والطبابة.

بالصوم نذوق جزئيًا خبرة الموت لنرفع أيّ لون من ألوان الموت عن كاهل المعذّبين.

جاورجيوس مطران جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)
نشرة رعيتي
13 آذار 2016

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share