مقاربة الله بين الشرق والغرب – المطران سابا (اسبر)

mjoa Tuesday March 29, 2016 164

مقاربة الله بين الشرق والغرب – المطران سابا (اسبر)

تقيم الكنيسة المقدّسة، في الأحد الثاني من الصوم الكبير، تذكاراً للقدّيس غريغوريوس بالاماس، الذي يُعتبر من آباء الكنيسة الكبار. عاش في القرن الرابع عشر، وشارك، بفعاليّة، في السجال اللاهوتي، الذي كان حامي الوطيس آنذاك. ودافع عن مفهوم التألّه، ونعمة الله غير المخلوقة، التي تقدِّس الإنسان. أقرّ الدفاعَ الذي قدّمه، مجمعان كنسيّان، عُقدا في العامين 1341 و1351، لهما، في ضمير الكنيسة الأرثوذكسيّة، مكانة المجامع المسكونيّة، لأهميّة التعليم، الذي جاء فيهما، بخصوص خلاص الإنسان ودوره وحريّته.

mokarabaفي الواقع، بدأت مفاعيل الانشقاق الكبير، بين الشرق والغرب المسيحيَّيْن، بالظهور في قضايا إيمانيّة أساسيّة، في ذلك القرن. فالانشقاق الذي حصل لأسباب، لعبت فيها الاختلافات الإيمانيّة والممارسات الطقسيّة دوراً صغيراً، إزاء الخلافات السياسيّة والاجتماعيّة والفكريّة، كان يخبّئ، في طيّاته، سبباً لا يقلّ أهميّة: ألا وهو التباين في ما بين العقليّتين، الشرقيّة والغربيّة، في فهم القضايا الدينيّة، وعلى الأخص فيما يتعلّق بمقاربة الله.
فقد مال الفكر الغربي اللاتيني، بعد الانشقاق، إلى الفلسفة اليونانيّة، التي صارت القاعدة الفكرية، التي يُشرح الإيمان على أساسها. قاد هذا المنهج إلى، ما عُرف في ما بعد، باللاهوت السكولاستيكي، أي المَدْرَسي؛ وهو طريقة مقاربة قضايا الإيمان وفهمها استناداً إلى قواعد المنطق والاستدلال العقلي. فرجحت كفّة العقل البشري في تفسير المسائل الدينيّة، على حساب الخبرة الإلهيّة الحيّة، ممّا فتح الباب لدخول تعاليم جديدة إلى التعليم اللاهوتي الغربي.
أمّا الشرق فبقي معتمداً، بالأساس، على النعمة الإلهيّة، التي تحلّ على الأبرار، وتنير الأطهار، فيعرفون الله، تالياً، معرفةً كيانيّةً شخصيّةً، لكونهم يحيَون فيه، ويحيا فيهم. أمّا العقل فدوره يكمن في استيعاب هذه الخبرة الإلهيّة، وصياغتها باللغة البشرية الممكنة، وذلك بغية تفسيرها ونقلها، للذين لم يصلوا بعد إلى اختبارها.
انفجر الصراع بين هاتين العقليتين، أو الطريقتين المختلفتين في مقاربة الله، في القرن الرابع عشر، حول موضوع النعمة الإلهيّة وفعلها في الإنسان. فقال الغرب بعدم الاتحاد بالله، الذي يبقى أرفع بما لا يُقاس من الإنسان، وإنّ النور، الذي يراه المتقدّمون روحيّاً، إنّما هو نور مخلوق، أي ليس نور الله ذاته، وإنّ النعمة، التي يمنحها الله للبشر، إنّما هي هبة منه تعالى، أو شيئ يعطيه للإنسان، وتالياً ليست ظهوراً مباشراً للإله الحيّ. بينما بقي الشرق معتمداً على خبرة الكشف الإلهي، التي أُعطيت للبشر بالكتاب المقدّس، واستمرّت في حياة الذين تقدّسوا واستناروا. فقال بأنّ هذا النور إنّما هو نور إلهي غير مخلوق، أي نور الله ذاته. فالنعمة الإلهيّة هي حضور فعلِ الله نفسه في البشر، وليست حضورَ هبةٍ خارجة عنه.
برز دور القدّيس بالاماس، الذي كان عالِماً كبيراً وروحانيّاً مُختَبِراً، في التمييز الذي قدّمه، بين جوهر الله وقواه. فبقي الله بجوهره غير مقترب إليه، في حين أنّه بقواه الإلهيّة، يلمس الإنسان ويقدّسه.
ينطلق اللاهوت الأرثوذكسي في هذا التعليم من خبرة الرسل في حادثة تجلّي المسيح (لو9/28). يخبرنا الإنجيل بأنّ المسيح أضاء كالشمس، ورأى الرسل الثلاثة هذا النور الإلهي، بأعينهم الجسدية، واختبروه شخصيّاً. النعمة الإلهيّة، أرثوذكسيّاً، هي كلّ غنى الطبيعة الإلهية من حيث اتصالها بالبشر. يتنعّم الإنسان المستنير بقِوى الله، ويبقى عاجزاً عن رؤية جوهره.
تكمن أهميّة هذا التعليم، الذي قد يبدو لبعضهم حواراً فكرياً نظرياً، في استقامة مسيرة الإنسان في بلوغه القداسة والتألّه المنشودين مسيحيّاً.
فالفرق كبير جداً بين معرفتك لله بواسطة إعمال عقلك فيه، أو من خلال ما يكشفه “هو” لكَ من قواه الإلهيّة. إنْ كنت تعرفه عقليّاً فقط، فأنت معرّض لخطر ابتكار صورة له، قد تكون بعيدة كلّ البعد عن حقيقته، لأنّك تستدّل عليها من خلال قواك البشريّة فقط. بينما الله لا يُعرَف إلا بالعيش معه وفيه، ذلك لأنّه كائن حيّ، شخص تدخل معه في خبرة لقاء ومشاركة وحياة.
اتّخذ اللاهوت الغربي منحىً عقليّاً في مقاربته لله، فصارت الفلسفة الركن الأساسي في دراسة اللاهوت، وتركّز السعي إلى المعرفة الإلهيّة على الجهد العقلي. أمّا في الشرق، فبقيت مقاربته تعالى، معتمدة على عِشرته والاتحاد فيه، وبقي التركيز قائماً على جهد التنقية والتطهير.
بقي مفهوم تألّه الإنسان في الغرب مشوَّشاً، فوقع اللاهوت في مطبّات عديدة، كالفصل بين الجسد والروح، واعتبار الجسد دنِساً وسجناً للروح…فصار النسك إماتةً، تقوم على تعذيب الجسد وإهانته وحرمانه والازدراء به. أمّا الشرق، الذي استمر في التقليد الروحي القائل بعيش خبرة التـألّه بواسطة حضور النعمة الإلهية في الإنسان، فرأى في النسك والتقشف وسيلةً لارتقاء الإنسان روحيّاً، وتقديسه جسداً وروحاً، وتجلّيه وتجلّي العالم معه.
ضغط الغرب الحياة المسيحيّة في قوانين وتعليمات قانونيّة قائمة على الثواب والعقاب، والحلال والحرام، وتكفير المادة وتقديس العقل، للارتقاء بالإنسان. أما الشرق فركّز على التطهّر، بغية الوصول إلى الاستنارة، راسماً مراحل الحياة الروحيّة بثلاث، تسمو التالية منها على السابقة، لكنّه عرف أنّها مراحلُ متداخلة من جهة عيشها. فقال بمرحلة العبد، الذي يعمل خوفاً من العقاب، والأجير، الذي يبغي المكافأة، والابن الذي يتشبّه بأبيه حبّاً فيه. في حين يبقى الهدف مصوّباً على بلوغ مرحلة البنوّة.
ما زال مفهوم التألّه مجهولاً عند الكثيرين، حتّى في الشرق. فالإنسان، بالممارسة الدينيّة، قد يكتفي بما بين يديه، ممّا يُريح ضميره. أن تكون عبداً أو أجيراً لأسهل من أن تكون ابناً، وتكتسب صفات أبيك الإلهي. هذا يحمّلك مسؤولية رفيعة، ويتطلّب منك حبّاً عظيماً للربّ، وتوقاً للاتحاد به. هذا تبلغه بعدما تترفّع عن مباهج هذا العالم، وتستبدلها بأفراحه التي لا تنتهي؛ على حدّ قول الشيخ صفروني زخاروف: “إنّ توقنا وانشدادنا بحنان إلى العالم العلوي هو فرحنا، وهو يحوّل شيخوخة موجعة إلى أخرى بهيّة جليلة كليّاً، بانتظار رحمات وتعزيات وإضمامات الآب وقبلاته”.
لا تقتصر حياتك الدينيّة على قوانين أو واجبات أو أخلاقيات، عليك اتباعها بغية بناء عالم أفضل، بقدر ما هي حبّ وحنين لله، الذي عرفت أنّك مخلوق على صورته، واختبرت حراك صورته، الباقية فيك مهما كانت مشوّهة، نحو أصلها. هذا حراك ليس لك أن تقاومه إلا إذا كنت غارقاً في ذاتك وأنانيّتك. يفتقدك الله بأساليب متنوعة حتّى يفتح عيني قلبك إليه، لكنّه لا يغتصبك. يبقى على الباب واقفاً يقرع، حتّى تفتح له، آنذاك يدخل ويتعشّى معك (رؤ3/ 20). يكشف “ذاته” للإنسان “كما هو”، تاركاً له حريّة التفاعل معه كما يريد.
يقول شاعر فرنسي: عندما يعزف الله على قيثارته، ترقص الجبال. فمن يقدر على إيقافها؟
28 آذالر 2016

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share