قبل القيامة أن نعرف أنفسنا! – الأرشمندريت توما (بيطار)
الرّبّ يسوع يأتي حنانًا للقلوب المنفطرة. لاوي بن حلفى كان مشلوحًا، عند مائدة الجباية. حياته كانت ما يحصّله من أموال، وكيف ينفق هذه الأموال في أهواء نفسه. حياته كانت، كلّ يوم، تبدأ عند مائدة الجباية، وتنتهي بالأكل، والشّرب، ومتع الجسد. الإنسان بحاجة إلى تعزية. إذا لم يكن الإنسان ليتعزّى بالله، فبمَ يتعزّى؟. بجسده!. يستهلكه، إلى أن يستنفده؛ فيمضي وكأنّه سهم يعبر ولا يعود ولا يترك أثرًا، كأنّه لم يكن. يسوع يأتي ليعزّي. يسوع يأتي ليلقي بوشاح الحنان على السّائرين في الظّلمة وظلال الموت. يسوع يأتي ليعطي القلوب المضطربة سلامًا. يسوع يأتي ليعطي البشريّة، المهجّرة في أهوائها، مسكنًا؛ يقدّم نفسه لها بيتًا، ويدعوها إليه: “تعالوا إليّ، يا جميع المتعبين والثّقيلي الأحمال، وأنا أريحكم”. هل هناك، في العالم، أناس متعبون، وأناس مرتاحون؟. أناس أحمالهم ثقيلة، وأناس أحمالهم خفيفة؟. في الظّاهر، ربّما. لكن، في قرارة نفس كلّ إنسان، حمله ثقيل، ونفسه متعبة. خارج يسوع المسيح، الإنسان يبقى في التّعب، الّذي لا يعرف فيه الرّاحة، أبدًا. وخارج الرّبّ يسوع المسيح، حِملُ الإنسان ثقيل، لأنّه في قلق لا يتوقّف عند حدّ.
يسوع يأتي، إذًا، ليشلح نوره على المرميّين في العتمة، وليظلّل على المتعبين والثّقيلي الأحمال. الرّبّ يسوع ينبض نبضًا بالرّحمة والحنان. ليس فيه أثر للقسوة. يؤدّب، إنّما برحمة. يربّي، إنّما ليصلح، ليقوّم. من هنا القول: “ليؤدّبني الصّديق برحمة، ويوبّخني. أمّا زيت الخاطئ، فلا يُدهن به رأسي”. طبعًا، أن يتعاطى الإنسان الرّبّ يسوع وكأنّ حضوره، حضور يسوع، في حياته، ثقيل؛ هذا معناه أنّه في العمى والشّقاء؛ ولا يميّز بين ما هو لخيره، وما هو لشرّه. هؤلاء هم العميان، الّذين يظنّون أنّهم مبصرون، ومن هؤلاء الكتبة والفرّيسيّون. لماذا إصرار الكتبة والفرّيسيّين على الطّعن بالرّحمة، الّتي يسبغها الرّبّ يسوع على العشّارين والخطأة، بحضوره فيما بينهم؟. ماذا يخسرون؟. إذا كانوا يرغبون في أن يهتمّ يسوع بهم، فهو مستعدّ، بالكامل. هو دخل، مثلاً، إلى بيت سمعان الفرّيسيّ. وهذا “بقبق” عليه، تكلّم عليه، ثرثر عقلُه عليه. عندما أتت تلك المرأة الخاطئة، وشرعت تبكي، وتذرف الدّمع على قدمي يسوع، وتمسحهما بشعر رأسها؛ قال سمعان: “لو كان هذا معلّمًا صالحًا، لعرف من هي هذه المرأة، إنّها خاطئة”. يا سمعان، الرّبّ دخل بيتك، لأنّه رغب في أن يقدّسك؛ فما بالك تتذمّر عليه؟. ما بالك تشكّك فيه؟. أنت لا تشكّك في قدرته، لأنّك تعرف قدرته؛ أنت، في الحقيقة، ترفض حنانه على الخطأة، والزّناة، والعشّارين، والمساكين. لماذا؟. لأنّك، يا سمعان، تظنّ نفسك أنّك بارّ!. كلّ من يظنّ نفسه أنّه بارّ، لا، فقط، يدين النّاس، بل يدين الله، أيضًا!. كلّ من يمجّد نفسه يطعن في ربّه؛ وبالامتداد، يطعن في كلّ النّاس. من يطلب مجد نفسه، فلا يمكنه أن يطلب مجد الله. كلّ نقيّ في عين نفسه يرى النّاس يتمرّغون في الحمأة ويشعر بالقرف منهم!. يدينهم وكأنّه يتلذّذ بإدانتهم، لأنّ الإدانة تعطيه شعورًا بأنّه بارّ!. لذلك، يحتاج الإنسان إلى أن يعرف نفسه على حقيقتها، أوّلاً؛ يحتاج إلى أن يعرف أنّه خاطئ، إلى أن تكون عيناه دائمًا على خطاياه: “خطيئتي أمامي في كلّ حين”. هذا يعطيه أن يحسّ بثقل خطاياه. معرفة الخطايا لا تعني، أبدًا، أن يعرفها الواحد منّا بعقله. هذه معرفة لا تنفع. المعرفة الّتي تنفع هي المعرفة الّتي تأتي من إحساس الإنسان بثقل خطيئته. عندما يشعر الإنسان بوجع، بسبب الخطيئة الّتي يرتكبها، وعندما يشتدّ وجعه؛ إذ ذاك، فقط، يصير عارفًا بخطيئته؛ وإذ ذاك، فقط، يسوغ له أن يتعاطى باستقامة مع الله، وأن يتعاطى باستقامة مع النّاس. الخطيئة الّتي تكدّ الإنسان، توجعه، تمنعه من أن يلوم أحدًا، من أن يدين أحدًا. الخطيئة الّتي نعيها شوكةً في كياننا تُنبت فينا الإحساس بالرّحمة حيال الآخرين. لماذا الرّحمة؟. لأنّنا نكون، إذ ذاك، بحاجة إلى رحمة، بسبب وجع الخطيئة الّتي فينا. عندما توجعنا الخطيئة، إذ ذاك، نجدنا في حال تناضح مع الآخرين، نحسّ مع الآخرين، نعرف الآخرين؛ لأنّ خبرة الواحد منّا هي كخبرة كلّ النّاس، لأنّ “الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله”. عندما أعرف خطيئتي، عندما أعرف نفسي على حقيقتها، أعرف البشريّة جمعاء. لا أعرف الأحداث، بالتّفاصيل، بل أعرف ما يجري في قلب كلّ إنسان، في كيان كلّ إنسان، ما يعانيه كلّ إنسان. وإذ ذاك، لأنّي أكون أنا بحاجة إلى رحمة الله، إلى تعزيته، أنعطف، بصورة تلقائيّة، صوب الآخرين، وأريد أن آخذهم بين ذراعيّ، أريد أن أشملهم بما تبقّى لديّ، كإنسان، من عطف، من حنان، من لطف، من دمعة. إذ ذاك، يعطيني ربّي ويزيد. بغير ذلك، الإنسان عديم الإحساس، يموت إحساسه. الّذي لا يحسّ بخطيئته، يموت إحساسه بالله، وبالنّاس. إذ ذاك، عندما يتمادى الإنسان في انعدام الحسّ، لا يعود هناك من فَرق لديه بين أن يدوس نملة وأن يبيد أمّة. اللاّحس هو يفعل ذلك. هذا لا يمكن تصوّره، أن يكون هناك إنسان يعمل على إبادة الملايين من البشر!. كيف يكون بإمكانه أن يفعل ذلك؟. يفعل ذلك لأنّ الإحساس فيه يكون قد ضمر، قد مات. لماذا؟. لأنّه لا يعرف نفسه، لا يعرف خطيئته!. تسعة وتسعون في المئة من النّاس، منّا – نحن عيّنة بسيطة من البشريّة جمعاء – وصوليّون، يهمّهم أن يبلغوا مرامهم، ما يرغبون فيه، ما يريدونه، ما يستحلونه. لذلك، سلوكهم تمثيل من حيث إنّ مشاعرهم العميقة لا حسّ فيها!. لذلك، أقوالهم مشبعة بالغرور، ومواقفهم ملتبسة، ملأى بالرّياء!. يُظهرون ما لا يبطنون، ويبطنون ما لا يظهرون. هذا هو الإنسان السّاقط، هذا هو أنا وأنتم، هذا هو كلّ واحد منّا.
لكن، لله دائمًا شهود، هنا وثمّة؛ التماعات، لكي لا يموت الإنسان في عتمة نفسه؛ لأنّ الرّبّ الإله “يشاء أنّ الجميع يخلصون، وإلى معرفة الحقّ يقبلون”. لو أردنا أن نحكم بحسب الظّاهر، لقلنا إنّ الله يختار بعض النّاس، هنا وهناك، واحدًا هنا، وواحدًا هناك، ويكتفي بهم. ألهذا تجسّد ابن الله؟. لا، أبدًا!. الله يشاء أنّ الجميع يخلصون. لذلك، لا يتركنا الرّبّ الإله من دون شهود، في حياتنا. لكنّ واقع البشريّة شقيّ إلى أبعد الحدود. كلّ إنسان كاذب، على قول المزمور!. ولكي يتمكّن من أن ينهض ليضيء له المسيح، عليه أن يعرف نفسه، أوّلاً، أنّه كاذب؛ عليه أن يعرف نفسه، أوّلاً، أنّه إنسان وصوليّ، يطلب مجد نفسه؛ الله، بالنّسبة إليه، مطيّة يستغلّها، يريد أن يؤمّن لنفسه وعلى نفسه. من هنا استغراقه في اللاّحسّ!. لذلك، كما يستعين الإنسان بشركات التّأمين، يستعين بشركة الثّالوث. هذا، إذا استعان. قبل أن يتوب الإنسان – ولن يتوب، إلاّ إذا عرف نفسه، في العمق، على حقيقتها – لا يمكنه أن يأتي إلى معرفة يسوع، إلى الحسّ بيسوع. سهل جدًّا أن يقول الإنسان إنّه تائب. لكن، أن يكون الإنسان تائبًا معناه أن يجعل نفسه بإزاء الحمأة، بإزاء أوساخ النّفس، يشتمّ رائحة نفسه، كما هي بالفعل، كريهة، في كلّ حين؛ يشتمّ رائحة أفكاره، ونواياه، ورخاوة نفسه وإرادته، على حقيقتها. الإنسان، والحال هذه، يرائي في كلّ شيء، يكذب في كلّ شيء. ما لم يمجّ، أوّلاً، خطيئته، بعدما يكون قد عرفها على حقيقتها، فإنّه لا يأتي إلى يسوع. ذاك الابن الشّاطر بقي سنوات يتمرّغ في الخطيئة، ولم يشعر، البتّة، بأنّه بحاجة إلى أن يعود إلى أبيه، إلى أن يتوب إليه. متى شعر بأنّه بحاجة إليه؟. عندما وعى أنّه انحطّ إلى مستوى الخنازير الدّنسة، وصار يطعمها، صار خادمًا لها، يشتمّ رائحتها، ويتدفّأ بأقذارها!. والأكثر من ذلك، عندما بلغ الحضيض، رغمًا عنه، وشعر، في عمق نفسه، بالمهانة الشّاملة أنّه لا كرامة له، بعد؛ إذ ذاك، انتفض. الرّبّ الإله يتركنا نتمرّغ بالأوساخ الّتي نشتهيها قدر ما نشاء؛ لكي نبلغ حدًّا من القرف، يجعلنا نشعر معه بأنّنا بلا كرامة، كبشر. إذ ذاك، ينتفض الإنسان فينا؛ لأنّنا، في أوّل الطّريق، نظنّ أن كرامتنا من صنعنا، من إرادتنا. لكن، الآن، نشعر بأنّنا قد ضللنا، قد خطئنا. لذلك، يعود الواحد منّا إلى نفسه. عاد الابن الشّاطر إلى نفسه، قبل أن يعود إلى أبيه. كلّ واحد منّا خارج عن طوره، ما دام مستسلمًا لأهواء نفسه. وأهواء نفسه تلقيه في جبّ الحمأة، إلى أن يأتي إلى الوعي العميق أنّه قد خسر كلّ شيء!. إذ ذاك، متى عاد الابن الشّاطر إلى نفسه، سهُل عليه أن يعود إلى أبيه: “أقوم وأذهب إلى أبي، وأقول له: يا أبي، أخطأت إلى السّماء وأمامك، ولست مستحقًا، بعد، أن أدعى لك ابنًا؛ اجعلني كأحد أجرائك”. قبل الاتّضاع الطّوعيّ، لا بدّ من أن يذوق الإنسان الضّعة مفروضة عليه وضعًا، أنّه وضيع، أنّه لا شيء، ممسوح تمامًا!. ساعتذاك، يعود إلى الله في مستوى الكيان – لا أتكلّم في الظّاهر، أبدًا – لأنّه يكون هو قد أصدر الحكم، لأنّه قال “أخطأت”. لم يقل له ربّه: “أنت أخطأت”، بل هو قال عن نفسه: “أخطأت أمام السّماء وأمامك، ولست مستحقًّا، بعد، أن أدعى لك ابنًا”!. الّذي يدين نفسه لا يدينه الله. على العكس، يعود إلى أبيه، طبعًا، مطأطئ الرّأس. دموعه، كيانيًّا، حسرة على دماء بذلها، في كلّ عمره، سدى!. يعود، فماذا يجد؟. أيجد لومًا عند أبيه؟. لا، أبدًا. أيجد رفضًا من قبل أبيه؟. لا، أبدًا. أيجد تحقيرًا من لدن أبيه؟. لا، أبدًا. ماذا يجد؟. قبل أن يصل هو إلى أبيه، “ينقضّ” عليه أبوه كما على فريسته، على فريسة حبّه، على فريسة التّوبة؛ ليأخذه بين ذراعيه، ليقبّله بوسخه، بأدناسه، ليضفي عليه من رائحة فيه مسكَ الطّيب، ليجعله متجلببًا بالنّور!. هذا هو الله، هذه هي شيمة الله!. وبعد ذلك، يلبسه الحلّة الأولى، ويجعل خاتمًا في إصبعه، وحذاء في رجليه، ويمدّ له المائدة، ويذبح له العجل المثمّن؛ إذ لا شيء عند الله يداني فرحه بإنسان واحد يتوب. قد تخرب الدّنيا بأسرها. هذا لا شيء عند الله. لكن، أن تخرب نفس، فهذا أمر رهيب!. كلّ شيء يُعوَّض إلاّ الإنسان، كلّ واحد منّا، لأنّه فريد، نموذج لا يتكرّر!. وأن تتوب نفس إلى ربّها، فهذا قلب جديد، لأنّ إلهنا محبّة، والمحبّة دفّاقة، تدفق حياة، في كلّ حين، وفرحًا، وسلامًا!.
لذلك، “ما جئت لأدعو صدّيقين، بل خطأة إلى التّوبة”. جئت لأجمع المحطّمين، البشريّةَ كلّها؛ لأنّ الجميع محطّمون. إذًا، من يدين من؟. عندما يعي الإنسان ما هو فيه، لا يعود بإمكانه أن يدين أحدًا!. إحساسُه بخطيئته يُطلق إحساسَه بمعاناة الآخرين!. إذ ذاك، قبل أن نؤخذ من هذه الدّنيا، نذوق حلاوات الفردوس، محبّة نتعاطاها نحن والإخوة، إذ يعطينا الرّبّ الإله أن نأكل جسده ونشرب دمه؛ أي، عمليًّا، أن نقيم في الملكوت، منذ الآن!. بعد ذلك، كلّ شيء يتدرّج من نور إلى نور إلى نور إلى حياة أبديّة. آمين.
الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي
دوما – لبنان
10 نيسان 2016