في قضية “الدياسبورا” الأرثوذكسيّة (2) – المتروبوليت سابا (اسبر)
ملاحظات حول المقاربات الحاليّة
قضيّة تنظيم الشتات تحت المجهر الآن، إذن. وما يبدو من طريقة تناولها يسمح لنا ببعض الاستنتاجات:
• تتناول معظم الرؤى المطروحة القضيّة من الزاوية القانونيّة البحت، وتسعى إلى تكييف القوانين بحسب ما يناسب وجهة نظر الكنيسة صاحبة الطرح. فيبحث كلّ في التفاسير القديمة، ويلوي الوقائع الحديثة، ويستند إلى نصوص، وُضعت في أزمنة غابرة، مختلفة جدّاً عن الأزمنة الحديثة الحاليّة.
• يلمس المراقب، عبر ما يُقدَّم، بخصوص هذا الأمر، من دراسات أو تعاليم، أو ممارسات، صراع نفوذ كنسي خفي، وخوف من خسارة رعايا الشتات، وهو ما يجب احترامه، خصوصاً في ظلّ الأوضاع السائدة في بلاد الكنائس الأمّ (حروب وتدهور اقتصادي واجتماعي).
• ثمّة قناعة، تتزايد عند الكثيرين، بعدم استعداد الكنائس الأمّ للتخلي عن كنائسها في الانتشار، كما أنّ معظم كنائس الانتشار ما زال يرفض هذا الانفصال، خاصّة إذا كان الحلّ يقول باتباع إحدى الكنائس المستقلّة. تؤكّد هذه المواقف مقاربات هذه القضيّة الشائكة، التي لا تنطلق من منظور لاهوتي، بقدْر ما تنطلق من تقديم براهين على صحّة ما تريده، بخصوص هذه القضيّة.
• التركيز على البعد القانوني، في معالجة هذه القضية، يكشف عن مدى غياب الهمّ الرعائي، والخيبة الكبيرة، الناجمة عن عدم تبنّي خطّة واضحة من أجل الخدمة الخلاصيّة للشعب، وعن الهوّة العميقة الموجودة، بين القيادات الكنسيّة والشعب، في أغلب الكنائس.
• بات التعاطي في الأمر يتمّ بطريقة دهريّة تضمن للكنائس نفوذاً بعيداً جداً عن حضور المسيح في قلب كنيسته، فيغدو غريباً عنها.
• ثمّة تلمّس لمنحى بابوي، آخذٌ في النمو، على عدّة أصعدة، داخليّة وخارجيّة، عند هذه الكنيسة أو تلك، فيظهر في مواقف وحوارات وجدل متنوّع. يكشف هذا المنحى عن مدى حاجة اللاهوت الأرثوذكسيّ إلى أطر لاهوتيّة قانونيّة، تجسِّد لاهوته الإكليزيولوجي في التاريخ. فتحدّد، عمليّاً، مفهوم وممارسة أولويّة الشرف، وأولويّة رئيس الكنيسة المحليّة، والأسقف، وكيفيّة التعبير عن المجمعيّة، بين البطريرك والأساقفة، وبين الأساقفة بعضهم مع بعضهم الآخر، وبين الإكليريكيّين والعلمانيين أيضاً.
• إنّ غياب المقاربة الرعائيّة عن معظم المقاربات الحالية، يكشف عن مدى خطورة الأمر، فلا تؤخذ بالاعتبار آلام المهاجرين السابقين واللاحقين، ولا معاناتهم، ولا أوجاعهم. يا ليتنا كنّا نختلف في طريقة رعايتهم الفضلى، بدلاً من الاختلاف حول تقاسم الأرض والعدد!! وهذا، للأسف، تعبير طبيعي يؤكّد مدى إهمال الخدمة الرعائيّة وضعفها عموماً، حتّى في الكنائس الأمّ.
اقتراح
لا مناص من الحلّ الأمثل، المنطلق من المفهوم الكنائساني الأرثوذكسي. يتجسّد هذا الحلّ في ظهور كنائس مستقلّة جديدة، عندما يصل وضع المؤمنين والرعايا، في تلك البلاد، إلى النضج الذي يسمح بالاعتراف بكنيسة واحدة لهم، وإلى تحقيق الشروط اللازمة للاعتراف بها.
• إن الانتشار، بحسب كلمات البطريرك اغناطيوس الرابع، في الأعمال التحضيريّة للمؤتمر الأرثوذكسي التمهيدي الرابع: “مدعو ليس إلى أن يبقى فقط على قيد الحياة، كما كان الأمر في الماضي، بل إلى أن يتحوّل إلى عنصر ديناميكي وخلّاق، في المكان الذي يوجد فيه. إنّ وحدة الأرثوذكسيّة، في مناطق الانتشار الأرثوذكسي المختلفة، قد أصبحت أمراً ضروريّاً من أجل الحفاظ على نقاوة الكنيسة وشهادة الكنيسة الأرثوذكسيّة”
• لا يسقط هذا النموذج من السماء دفعة واحدة، بل هو هدف ومثال يحتاج تحقيقهما إلى اتفاق على رؤية للمستقبل، وعمل مشترك، دؤوب وواضح ومشترك، وفق خطّة عملية تأخذ بعين الاعتبار واقع رعاية الشعب رعاية فضلى، وتنمية الحسّ الملموس بالجامعيّة الأرثوذكسيّة. في هذا الصدد، يبقى، حيّاً وواقعيّاً، اقتراح المندوب الأنطاكي، السيد ألبير لحام، أيضاً في تلك الاجتماعات ذاتها: “أن نقوم بخطوات صغيرة معاً، بأن نذهب معاً نحو وحدتنا، لأنّ الشعب يجب أن يختبر هذه الوحدة أولاً”.
• تقوم هذه الخطّة على رؤية لاهوتيّة تنفيذيّة ومستقيمة محض، ونابذة لكل مفاهيم النفوذ والسيطرة والمنافع التي ليست بشيء من إنجيل يسوع المسيح.
• وكذلك على وعي كامل للآلام التي يعانيها الشعب الأرثوذكسي، الذي ما تزال، تدفعه إلى الهجرة، أوضاع بالغة القسوة والاضطهاد، أمنيّة كانت أو اقتصاديّة. ما كانت هجرة الأرثوذكس، قديماً وحديثاً، بفعل العمل وطلب العلم فقط، بل قسريّة ظالمة، لجأ الناس إليها، ولا يزالون، رغماً عنهم. هذا يعني أنّنا، ككنائس، يجب أن نأخذ بعين الاعتبار، وبكلّ احترام وتقدير، مشاعر هؤلاء المؤمنين تجاه أرضهم وبلدانهم ولغاتهم وعاداتهم وأرثوذكسيّتهم الاجتماعيّة. ما يتطلّب خطّة طويلة الأمد، تراعي البعد الزمني في تهيئة الظروف والعقليّات والنفوس، لقبول تحقيق الهدف المرجو.
• الرؤية أيضاً قائمة على إيجاد واقع كنائساني جديد، يأخذ بعين الاعتبار خصوصيّة أن يكون لكنائسه، المتعدّدة الأصول، علاقة ما مع كنائسها الأمّ. كيف نرسم هذه العلاقة؟ وما هي الخصوصيّات التي تميزها؟ وكيف توجَد دون أن تؤثِّر على جامعيّة الكنيسة؟ هذه هي الأسئلة التي يجب طرحها.
• تظهر هذه الكنائس المحليّة الجديدة عندما يصل أرثوذكس الشتات، وهم لا يزالون يتدفقون على بلدان جديدة، إلى وعي ثقافة الأرض الجديدة التي يقطنونها، وإلى التفاعل والتثاقف معها من منطلق الإيمان الأرثوذكسي. يلزم الوصول إلى هذا الوعي مرحلة انتقاليّة، ذات مسيرة تربويّة هادفة، تأخذ بعين الاعتبار والجدّ، تلك الثقافة التي تختلف في مرتكزاتها عن الثقافة القائمة تاريخياً في البلدان الأرثوذكسيّة. هذا عمل أساسيّ، آن له أن يبدأ على صعيد أرثوذكسي جامع.
• مجالس الأساقفة، التي تمّ إقرارها في العام 2009، بدأت عملاً وحدويّاً ناجحاً، ولو أنّه بقي على المستوى الظاهري والرسمي، ولم يتجاوز، إلا فولكلوريّاً، حدود القيادات الكنسيّة. لكنّه بات، قبل إلغائه أو تجديده، بحاجة ماسّة إلى تقييم. لقد توافق الأرثوذكس على مبدئه، لكن تعتور ممارسته، هنا وثمّة، مغالطات عديدة، أيقظت المخاوف عند العديد من الكنائس، وأظهرت السعي نحو حصر التمثيل الأرثوذكسي، في بعض “بلدان الدياسبورا”، بكنيسة واحدة بعينها. ما بدأ يسبّب نفوراً من هذه المجالس، بات متأصلاً في النفوس، وإن لم يعبّر الجميع عنه بالدرجة نفسها.
• تكتسب معرفة تاريخ نشوء البطريركيّات القديمة أهميّة كبرى، في المساعدة على استجلاء حدود الكنائس الناهدة إلى الاستقلال. فارتباط استقلال الكنائس بمفهوم القوميّة، الذي ظهر منذ قرنين، يشكّل خطراً عليها. في حين نشأت الكنائس التاريخيّة الخمس في أوضاع مختلفة كلّ الاختلاف عن أوضاعنا، وتكون خبرة الاستعانة بها مفيدة على صعيد بناء جامعيّة الكنيسة اليوم.
خاتمة
يبقى الرجاء في أن تكون المداولات الكنسيّة، في أيّ أمر أو قضيّة مطروحين على طاولة المجمع الكبير، آخذة بعين الاعتبار خلاص شعب الله وافتقاده ورعايته رعاية مثلى، في استقامة الفكر والإيمان والسلوك، وإلا فنحن في طريق، أقلّ ما يُقال فيه، إنّه غير مستقيم.
10 نيسان 2016