في “الفصح” الواحد – المطران سابا (اسبر)
يعيّد المسيحيّون فصحاً واحداً، ولو اختلفوا في توقيت العيد. الفصح هو فصح الربّ يسوع المسيح، أعني قيامته. وما يرافق هذا العيد من طقوس وتقاليد، تختلف بين مجموعة مسيحيّة وأخرى، إنّما يقول أمراً واحداً ألا وهو صلب المسيح وقيامته. من هنا الكلام الشعبي المتداول، حول “إقامته” في كنيسة و”تجنيزه” في أخرى، كلام سخيف. قد يختلف توقيت إقامة خدمة الجنّاز أو القيامة أو… بين عدّة كنائس في الأبرشيّة الواحدة. يقيم الأستراليّون قدّاس الفصح فيما يكون الأمريكيّون الشماليّون يقيمون قدّاس سبت النور، بسبب الفارق الزمني الكبير بين البلدين. الخدمة الليتورجيّة تستعيد حدث الصلب أو القيامة، ليعيش المؤمنون فعلهما في حياتهم، ولا تُجري الصلب أو القيامة من جديد!!!
يكثر الكلام حول توحيد تاريخ عيد الفصح، بالأخصّ في بلادنا. ممّا لا ريب فيه أنّ الحاجة، عند الشعب المؤمن، باتت ماسّة إلى تحقيق هذا الأمر، شهادةً، ولو خارجيّة، لكنّها منظورة، وتكتسب أهميّة في مجتمع متعدّد كمجتمعنا.
لا يعرف الكثيرون أنّ القاعدة، المطبَّقة في تعيين تاريخ عيد الفصح، هي إيّاها في الكنيستين الشرقيّة والغربيّة. جميع المسيحيين يتّبعون قاعدة المجمع المسكوني الأوّل (325م). فقد حدّد آباء هذا المجمع، القدّيسون، العيد يوم الأحد الأول، الذي يلي البدر الأول، بعد الاعتدال الربيعي. بكلام قريب لعصرنا، تقول هذه القاعدة، إنّ العيد يجب أن يقع يوم الأحد، الذي يلي البدر الأول، الذي يأتي بعد بدء فصل الربيع.
لماذا الاختلاف القائم إذن؟ إنّه اختلاف في التقويم وليس في القاعدة. فالتقويم الذي كان سائداً، في القرون الخمسة عشر الميلاديّة الأولى، هو التقويم المعروف في بلادنا بالشرقي، واسمه العلمي التقويم اليولياني. أجرى الغرب تعديلاً أو تصحيحاً فلكيّاً عليه في القرن الخامس عشر، على يد البابا غريغوريوس، فعُرف بالتقويم المصحّح أو الغربي أو الغريغوري.
يوجد بين التقويمين فرق يمتدّ لثلاثة عشر يوماً وست ساعات وعدد من الدقائق والثواني. فبدء الربيع في التقويم الغربي، الجاري استعماله مدنياً حاليّاً، يقع في الواحد والعشرين من شهر آذار، الذي يوافق 8 آذار بحسب التقويم الشرقي. وعليه، بحسب التقويم الغربي، إذا ما اكتمل البدر في الفترة الواقعة ما بين 21 آذار إلى 3 نيسان، يكون الفصح في الأحد التالي لاكتمال القمر. ولكن في هذه الحالة يكون اكتمال القمر البدر، بحسب التقويم الشرقي، قد تم قبل بدء الربيع (يبدأ الربيع في 3 نيسان بحسب التقويم الشرقي)، فينتظر الشرقيّون البدر التالي، أي قرابة شهر وأكثر أحياناً، حتّى يعيّدون الفصح، وهذا سبب الفارق الكبير بين توقيت العيدين، هذا العام.
ثمة فارق آخر ذو دلالة إيمانيّة. إذا تزامن الأحد المطلوب مع الفصح اليهودي، تنقل الكنيسة الأرثوذكسيّة الفصح إلى الأحد الذي يليه، أما الغربيّة (الكاثوليكيّة والبروتستانتيّة) فتعيّد مع الفصح اليهودي.
في العام 1922 اتفقت بعض الكنائس الأرثوذكسيّة (القسطنطينيّة، أنطاكية، قبرص، اليونان)على اتباع التقويم الغربي، في ما يخصّ جميع الأعياد الثابتة (التي لها تاريح ثابت كالميلاد والبشارة…). يقول بعضهم إنّه كان اتفاقاً متبادَلاً، فيتّبع الأرثوذكس الأعياد الثابتة بحسب التقويم الغربي، بينما يتّبع الكاثوليك الفصح والأعياد المتعلّقة به (الصعود، العنصرة..) بحسب التقويم الشرقي. أتمّت الكنائس الأرثوذكسيّة المذكورة الاتفاق في العام 1944، وقد سبّب وقوع انشقاق داخلي كبير فيها، بسبب رفض الكثيرين من أتباعها اتباع التقويم الغربي. وقد عدّ هؤلاء الأمر خروجاً على التقليد المستقيم الرأي، وخيانة للأرثوذكسيّة، وبدء انحراف هرطوقي نحو اتباع الغرب.
يبلغ عدد أتباع التقويم القديم في اليونان مليوناً، وفي قبرص ثلث السكان. لا يعترف هؤلاء بأيّ شركة لهم مع الكنيسة الأمّ، التي تركوها، متشدّدين إلى درجة أنّهم لا يعترفون حتّى بالقدّيسين، الذين ساروا بحكم خدمتهم الكهنوتية، على ما أقرّته كنيستهم الأمّ، كالقدّيس نكتاريوس، على سبيل المثال لا الحصر.
في ذلك الوقت كانت كنائس دول أوروبا الشرقيّة الأرثوذكسيّة في وضع لا يسمح لها بإجراء أي اتفاق (تحت الحكم الشيوعي). وهي، اليوم، تعتبر أيّ تعديل في التقويم مساساً بجوهر الإيمان، وترفضه جذريّاً. إلى ذلك تنمو عندهم تيارات متشدّدة جداً، يغذيها ما يحدث من اقتناص وتبشير على يد الجماعات المسيحيّة الغربية على أراضيها.
بالعودة إلى بلادنا، في الشرق، يبقى الحلّ المطروح، والذي توافق عليه شفهيّاً معظم رؤساء الكنائس الشرقيّة، بما فيها الكاثوليكيّة، هو اتباع التقويم الشرقي في ما يتعلق بعيد الفصح. وقد بارك البابا بولس السادس هذا الأمر، وسمح به بالنسبة للكاثوليك. هذا يتمّ في مصر والأردن حاليّاً.
يتبقّى عامل آخر، مهمّ وحسّاس، لأنّه يتعلّق بالبعد الوجودي، لبعض الجماعات المسيحيّة الموجودة في الشرق. فالأرمن الذين تشتّتوا، بعد الإبادة، يستشعرون الوحدة في ما بينهم بحساسيّة مفرطة. وهم يحافظون على التقويم الشرقي في كلّ شيء إلا الفصح، الذي يعيّدون له غربيّاً، لئلا يخسروا الأقليّات الأرمنيّة التي نثرتها الإبادة في بلدان الغرب. كذلك الموارنة الذين يهمّهم تثبيت جذور المغتربين اللبنانيّة، باستجلابهم إلى لبنان في عطلة الفصح الغربي، ليجدّدوا تراثهم الماروني واللبناني. هؤلاء سيُحرمون من هذه الفرصة التجديديّة إذا ما تبعت الكنيسة المارونيّة التقويم الشرقي، ما سيؤثر على الوجود الماروني في لبنان.
من هنا نستطيع أن نفهم ما أورده البطريرك غريغوريوس لحام، في اعتذاره عن تتميم الوعد الذي ضربه أمام المؤمنين، في حضرة البابا يوحنا بولس الثاني، في أثناء زيارته إلى سوريا، في العام 2000. جاء في بيان غبطته، في الفقرة الثالثة تحديداً: “حفاظاً على وحدة الصف الكاثوليكي”. ما يعني أن أمر إقامة العيد، بحسب التقويم الشرقي، لم يكن مقبولاً عند جميع الجماعات الكاثوليكيّة.
نقلت وسائل الإعلام مؤخراً خبر قبول بابا روما وبعض البطاركة بتعيين الأحد الثاني من نيسان موعداً ثابتاً للفصح، في كلّ عام. لم يؤكدّ الفاتيكان هذا الخبر، ولم تنشره أيّ وسيلة إعلاميّة فاتيكانيّة رسميّة. وقد رأى الكثيرون فيه اقتراحاً غير مقبول كونه ينسف مبدأ المجمع المسكوني. [والقاعدة الإيمانية أن ما من سلطة كنسية تستطيع تغيير قرار تمّ اتّخاذه في مجمع مسكوني. وحده مجمع مسكوني جديد يمكنه إعادة النظر في قرار مجمع مسكوني سابق له]. كذلك رأوا فيه زيادة في البلبلة والتشويش. إذ سيرفضه الكاثوليك قبل الأرثوذكس، لأنّه يعارض قرار مجمع مسكوني، له رسوخ في العقيدة المسيحيّة. وبدلاً من أن يتمّ السجال حول توقيتين سترتفع حدّته أكثر بسبب ثلاثة توقيتات. هذا ما دعا البطريرك الأرثوذكسي الروسي للردّ عليه، سريعاً، بالرفض المطلق.
بالنسبة لنا في الشرق، يبقى الحلّ المقترَح في القرن الماضي، هو الأكثر قابليّة للتطبيق حاليّاً. فالكنائس الأرثوذكسيّة لم تعد قادرة على تحمّل انشقاقات جديدة، والكاثوليكيّة حصلت على الإذن الباباوي باتباع الفصح الشرقي، متى رأت أنّ النفوس قد نضجت لاتباعه. يبقى لنا أن نصلّي بصدق، ونسعى بأمانة إيمانية، عسى الروح القدس يحرّك القلوب لتلتقي قريباً على شهادة فصحيّة واحدة.
09 أيار 2016