ما بين الواعظ والوعظ – المطران سابا (اسبر)

mjoa Tuesday May 31, 2016 216

ما بين الواعظ والوعظ – المطران سابا (اسبر)
الوعظ بكلمة الله، وبها وحدها.
جاء في المنجد أنّ فعل “وعظ، يعظ وعظاً”، يعني “نصح له، ذكّره ما يحمله على التوبة إلى الله وإصلاح السيرة”. لماذا الوعظ؟ ألا تكفينا كلمة الله؟ بلى، وفي نهاية المطاف ما من سواها. لكن كلمة الله وصلت إلينا في زمن محدّد، وتاريخ معيّن، وثقافة مختلفة. ويحتاج نقلها إلى إعادة قولها، بالطريقة التي يفهمها السامعون في زمن آخر، وثقافة مغايرة، وعقليّة جديدة؛ فتقول، الآن، ما أراد الله أن يقوله بواسطتها، في الزمان الذي بلّغنا إيّاها فيه. يطلق على هذا العمل لفظة “التأوين”. وهي لفظة مشتَقة من لفظة “الآن”.

jesusيؤوّن الواعظ الكلمة الإلهيّة، بمعنى أنّه ينقلها إلى السامعين بأمانة كبيرة، تجعله يقولها بأسلوب يفهمونه، فينقل، حقّاً، ما أراد الله أن يقوله للبشر، عندما بلّغهم إيّاها، على لسان نبيّ أو رسول، وبالأخصّ عندما أعلنها “الكلمة” بنفسه. من هنا لا يمكن للواعظ إلا أن ينطلق من الكلمة الإلهيّة. مصدره الأول والدائم هو الكتاب المقدّس. ينطلق منه ليقوله “هنا والآن”.
بكلمات أبسط، الوعظ هو كلمة الله تطبيقاً. أنت تقرأ الكلمة، وتسأل نفسك، بعد أن تفهمها، كيف أعيشها اليوم؟ وكيف يمكنني أن أعيشها في هذا الظرف أو ذاك؟ أحتاج إلى معرفة كيفيّة تطبيقها حياتيّاً. يأتي الوعظ لكي يساعدك في تحقيق هذا الأمر البالغ الأهميّة.
هذا يستدعي معرفة الواعظ بالكتاب المقدّس معرفةً جيّدة، والتبحّر في تفسيره بشكل صحيح وسليم. كما يتطلّب معرفةً بالعالم، الذي يعيش فيه السامعون، وما فيه من تحدّيات إيمانيّة متنوعة. وكذلك إلى خبرة الوعّاظ الكبار، والتمرّس الدائم في قراءة عظاتهم.
كما يفترض بالواعظ أن يكون رصيناً في كلامه، متقناً لاستخدام الألفاظ المناسبة، البسيطة والحاملة للمعنى، الذي يقصد إيصاله. ما يستدعي تخصيص الوقت الكافي لتحضير العظة، ووضع النقاط الأساسيّة، التي يريد الواعظ معالجتها، والأمثلة التي يحتاج إليها، من أجل توضيح ما يقول. للعظة بناء متماسك، يُفترض بالواعظ أن يأخذه على محمل الجدّ.
الارتجال ممنوع، خاصّة للمبتدئين والمنشغلين بأمور شتّى. خير لك وللمؤمنين أن تقيم القدّاس الإلهي دونما عظة، من أن تعظ دونما تحضير. ممارسة الوعظ مسؤوليّة عظيمة ومرهوبة؛ فنقل الكلمة الإلهيّة إلى إنسان اليوم، أمر دقيق جدّاً. لفظة واحدة في غير محلّها قد تشوّه صورة الله عند السامع، وتُبعده عنه. من هنا يجب أن يكون الواعظ إنسان صلاة ونقاوة وتواضع قبل أيّ شيء. وأن يعي، جيّداً، أنّه قناةٌ يوصل الله، عبرها، كلمته الخلاصيّة إلى البشر.
بقدر ما يكون الواعظ صادقاً في ما يقوله، يؤثّر كلامه في السامعين. الصدق ينتقل إليهم في كلماته وتعابير وجهه، كما وفي رنّة صوته، وطريقة مخاطبته لهم. لا يستطيع الكاهن أن يخفي حقيقته مدّة طويلة عن المؤمنين. آثار الله، إن كانت حاضرة فيه، يتلقّفها المؤمنون سريعاً، وليس بمقدوره إيهامهم بحقيقتها، إن لم يكن يعيشها حقّاً. والعكس صحيح أيضاً.
لا يكفي الكاهن أن يقرأ عظة أو أكثر، عن إنجيل أو رسالة اليوم، التي سيعظ فيها. بل يحتاج إلى المداومة على التواصل مع عظات الوعّاظ الكبار في كنيسته، والاستفادة من خبرتهم، التي يحتاج إلى إغناء خبرته منها، لكي يتقن فن الوعظ، فيصير مستقيماً، وصادقاً، وفاعلاً، وملامِساً لِما يعتمل في قلوب المؤمنين، من معاناة وأوجاع روحيّة أو جسديّة.
الوعظ وسيلة للتعزية، وبثّ الرجاء، والتوجّه نحو الله، وتفتيق طاقات المؤمنين، وإخراجهم من حالة القنوط واللامبالاة. وفي القدّاس الإلهي، تتخّذ العظة أهميّة عظمى، في تنمية حسّ التوبة، والاستعداد للاتّحاد بالربّ، في سرّ الشكر الإلهيّ.
كلِّم شعبك بمحبّة، لا بعاطفيّة. نبّههم بحسب معرفتك بدرجة تقبّلهم. لاحِقهم بكلمة الله دوماً، واسعَ جهدك لتكون كلمته، له المجد، متماهية فيك: في حياتك وسلوكك وتصرّفك. المَثَل السائد: “اسمعوا أقوالهم ولا تفعلوا أفعالهم”، يعني في الواقع: “اسمعوا وارموا ما سمعتم”. الكلمة تحمل نبضاً، يشعر به السامعون، ويميّزون صدقه من زيفه. هم يتأثرون عندما تخرج كلمات الواعظ من قلبه الصادق، لا من عقله “المتفذلِك”.
أنت في الوعظ لا تقدِّم درساً في اللاهوت، ولا تفسيراً علميّاً للكتاب المقدّس، ولا زخرفاً كلاميّاً، ولا رطانةً لغوية، وإنّما تستعين بالتفسير، لكي تبلّغ الكلمة الإلهيّة، بأنقى ما يمكن من الدقّة، وبتقديم التطبيق الحيّ الممكن، وتأدية الشهادة للإيمان، في المجتمع، الذي يعيش فيه سامعوك.
ايّاك والاستخفاف. واظب على الصلاة والقراءة وبلِّغ بتواضع. لا توبِّخ وأنت غاضب. قلِ الحقّ، ولكن بمحبّة (أفسس4/15). اتعب على نفسك، لكي لا تقع في الرتابة والترداد. اطّلع على الثقافة المعاصرة، فهذه تساعدك في إتقان كيفيّة مخاطبة الناس. صدقك وتوجّعك، من أجل خلاص رعيّتك، يستجلبان نعمة الله، التي تقويّك وتجعل وعظك حيّاً. لا تسمح لشيء أن يمنعك عن تحضير عظتك. فالمطلوب أن تنقل لهم الحياة. ألم يعلّمنا الواعظ العظيم، القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم، أنّ المؤمن يأخذ الله كلمةً في الوعظ، وجسداً في المناولة المقدّسة!
قد يؤلمك عدم تجاوب الناس الظاهري معك. لا تيأس. أنت إنسان وقد تتعب، فلا بأس إن أعطيت نفسك فترة من الراحة، لكن انتبه ألا تطول. صلِّ من أجلهم، ارفعهم، بحرارة، إلى الله، وتابع رسالتك. ذكر المطران جورج خضر في مقالة له، تعود إلى إحدى سنوات تسعينيّات القرن الماضي، أنّه زار مدينة إدلب، في الصوم الكبير، والتقى المؤمنين بعد الصلاة، فذكّره أحدهم، بأنّه قد زارهم في العام 1946 وقال لهم كذا وكذا!! يقول الكتاب المقدس إنّ كلمة الله لا ترجع فارغة.
اجتهد في أن تكون ناقلاً لكلمة الله الحيّة والفاعلة، لا المحفوظة والواجب قولها. صحيح أنّ الناس يريدون شهادة حياة، وقد ملّوا من الكلام. نعم، هم ضجروا من الكلام التافه، لكنّهم عطاش، أكثر من أيّ وقت، إلى كلام الحياة، النابع من حضور الله فيك.
لا تنسَ أنّك إنجيلٌ لله.
30 أيار 2016

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share