من جحيم الخطيئة والموت إلى عنصرة المحبّة والحياة! – الأرشمندريت توما (بيطار)
في الحياة توازن دقيق، ولو بدا كأن ثمّة عشوائيّة. عشوائيّة، إلى حدّ ما، في الظّاهر. أمّا، في المستوى الكيانيّ، فالأمر يختلف. تزرع تحصد ما تزرع. تبذر زؤانًا تأخذ زؤانًا. تنثر قمحًا تجمع قمحًا. نخطئ إن كنّا نظنّ أنّ الله يعاقب. ليس العقاب من شيمة المحبّة. الله يؤدِّب. الفرق شاسع بين التّأديب والعقاب. العقاب جزاء بالشّرّ. هذا شأن الخطيئة. فيما التّأديب تربية. والتّربية تنشئة للإنسان. والتّنشئة شخصيّة، في الجماعة وبإزائها. كلّ إنسان عزيز لدى ربّه. نموذج لا يتكرّر!!.
الله يتوسّم التّأديب لأنّه يشاء أن يبلِّغ الإنسان، بالعلاج، إلى اكتمال النّموّ. قلت: “علاج”؟. هذا لأنّ التّأديب ذو طبيعة علاجيّة تقويميّة. علاجيّة لا بمعنى استعادة حالة صحّيّة سالفة محدّدة، بل بمعنى استرداد سويّة إنسانيّة تستدعي وتكون أساسًا لمسار نمائيّ يبلِّغ كلًّا إلى ملء قامته الذّاتيّة. مثال ذلك: لا تصنع الشّرّ بل اصنع الخير. إذا صنعت الشّرّ تمرض. لكنّك تُوقِف تفاقم المرض بمقاومة الشّرّ، فيما ليست مقاومة الشّرّ مجرّد ردّ فعل. مقاومة الشّرّ تكون بصنع الخير. تُقبل على الخير وتداوم عليه وتثبت فيه، إذ ذاك تقوى على الشّرّ. الظّلمة لا تُقهر بالصّدّ. تُقهَر بالنّور. تتبدّد بالنّور. طاقتك لا تبدّدْها في ردّ الشّرّ، في ذاته، عنك، لأنّك في كلّ حال، لا تستطيع. الشّرّ مؤشّر غياب الخير، لكنّه لا كيان له. بلى تختبره كقوّة سوداء هائلة، لكنّها قوّة عدميّة وتشدّ إلى العدم. ولكن، فقط، إذا لم تُقبل بإصرار وتواتر على الخير. الإحساس بالعتمة حثّ ودعوة للإقبال على النّور. الشّر لا يُقاوَم بالشّرّ. بالعكس، إذ تقاوِم الشّرّ بالشّرّ، تنضمّ إليه!. تجعلُه يستشري. الشّرّ قويّ وضعيف في آن. قويّ ويزداد قوّة متى عملت على مقاومته بسلاحه، وضعيف متى أصررت على صنع الخير. ضعيف حتّى التّلاشي، كأنّه لم يكن!.
على هذا، متى خطئتَ، فأنتَ لا تزيل الخطيئة متى صحوت إلى أنّك خطئت، أو متى عزمتَ على عدم تكرار ما فعلت، قدرتَ أم لم تقدر، أو حتّى متى اعترفت بخطيئتك لدى الكاهن وحلّك منها. غير صحيح، إذ ذاك، أنّ الخطيئة تصير كأنّها لم تكن، بل تبقى آثارها وتأثيراتها في النّفس والجسد. من حقّك، هنا، أن تسأل: ولكن، ما معنى أن يكون الله، بالاعتراف والحلّ قد غفرها لك؟. طبعًا، الله لا يغفرها لك إلّا إذا كنت تائبًا، حقًّا، عنها. رغم ذلك، لا تزول كأنّك لم ترتكبها. أنت لست آلة صمّاء تُصلِح الخلل فيها فيزول وتزول مفاعيله. أنت روح ونفس وجسد. فيك المنظور وغير المنظور، في حياكة داخليّة حيّة، تجعل كلّ ما فيك، من أبسط الأمور إلى أعقدها، روحًا ونفسًا وجسدًا، منظورًا وغير منظور، واحدًا أحدًا. لذا للخطيئة ترسّباتها، ومن ثمّ تردّداتها فيك. هذه وتلك، فقط اثنان يتحكّمان فيهما: إرادةُ الإنسان ونعمةُ الله، متعاونتَين متّحدَتَين. التّوبة والمغفرة تُطلِقان، من جديد، الإرادة والنّعمة. أقول “من جديد” لأنّ الخطيئة الّتي بلا توبة تعمل على تعطيل الإرادة، شيئًا فشيئًا، حتّى يمسي المرء كَبِلا إرادة فاعلة، جملةَ أحاسيس وانفعالات، إذا جاز التّعبير، وحسب. كذلك، تعيق الخطيئة عمل النّعمة، حتّى يمسي المرء، بالعناد في الخطيئة، خِلوًا من مفاعيل النّعمة، كأنّه لا نعمة له في حياته. التّوبة هي الّتي تستدعي النّعمة. لذا دائمة هي. ليست التّوبة ندمًا على خطيئة وحسب. النّدم ندم على الخطيئة كفعل. التّوبة أرحب. التّوبة حالة. لذا، هي، بالأحرى، عودة: عودة عن الخطيئة، كحالة كيانيّة، في النّفس، لذا هي عودة متواترة؛ والأهمّ من ذلك أنّها عودة إلى الآب؛ والتّعبير الأدقّ الأبلغ أنّ التّوبة هي العودة (بأل التّعريف) إلى الله لأنّ الخطيئة هي الاغتراب عن الله؛ فمتى عدتَ إليه تكون قد عدت عن الخطيئة. تعود مهشّمًا. الخطيئة تهشّم. لذا تهمِّشك في ذاتك. قولة الابن الشّاطر، بعدما هشّمته الخطيئة، ورجع إلى نفسه: “كم من أجير لأبي يفضل عنه الخبز وأنا أهلك جوعًا” (لوقا 15)!. أنا أهلك جوعًا، قال!. هذا جوع كيانيّ!. إلامَ هو جائع؟. إلى المحبّة، إلى خبز المحبّة، إلى جسد المحبّة، إلى جسد مَن أخذ خبزًا وقال: خذوا، كلوا، هذا هو جسدي… شعر، في كيانه، أنّه يهلك، لأنّه بلا الخبز الكيانيّ، ذاك، يجد نفسه في وحشة، في عزلة قاتلة!. ثمّة ما هو أفظع من الموت كحدث: الموت كحالة، حالة الموت!. هذا هو الهلاك الأبديّ!. يخرج الّذين فعلوا السّيّئات إلى هلاك أبديّ (2 تسالونيكي 1: 9)!. الهلاك الأبديّ، الجوع الكيانيّ الأبديّ، هو اللّامحبّة، هو الإعاقة الكيانيّة عن تعاطي المحبّة الإلهيّة، أي الله المحبّة، عن امتصاص المحبّة الإلهيّة، كخبز، كغذاء، دونه يهلك الإنسان جوعًا؛ الخبزِ الّذي هو الله عينُه، الّذي به، وبه وحده، نحيا ونتحرّك ونوجد (أعمال 17: 28).
فقط، بعدما هشّمت الخطيئة الابن الشّاطر، قارن نفسه بالأجراء، بالخدّام، بالعبيد؛ ما يعني أنّه وعى بنوّته، الّتي ماتت في عينيه، لمّا غادر أباه، لمّا استغرب عنه. ماتت في عينيه هو لا في عينيّ أبيه. ابني هذا كان ميتًا فعاش، وكان ضالًّا فوُجد. كان ميتًا بالخطيئة فعاش بالتّوبة!. ليس أبوه مَن حرمه الخبز، مَن حرمه ذاته!. الله، دائمًا في الانتظار، لا يَضغَن ولا يحقِد، لأنّه فِعْلٌ لا انفعال!. هكذا المحبّة، هكذا محبّتُه!. محبّة الله تسري تلقائيًّا في نفس الإنسان متى تاب إليه، متى انفتح كيانُه عليه، بعد إيصاده دونه!. لا، ليست هناك آليّة بل تلقائيّة. تلقائيّة لأنّ محبّة الرّوح شخصيّة، تصدر من أقنوم روح الله، ولأنّ هذه المحبّة، الّتي هي، أيضًا وأيضًا، إيّاه، حاضرة في كلّ آن ومكان!.
لهذا، بمغفرة الخطايا، لا تُزال الخطايا، بعد ندم واعتراف، بل تُنخَس الإرادةُ فينا لالتماس وجه الله وتسري النّعمة. والخطايا الّتي تترسّب فينا مفاعيلُها تستحيل، بالذّكرى، بالصّورة، بالإحساس، بالحرارة، مناخس توجع النّفس بتواتر، وتدفعها إلى توبة مستدامة، لا تهين ولا تلين حتّى تأتي بالمرء إلى التّملّؤ من حضرة الله، من محبّته. هكذا تستحيل الخطايا، المغفورة لنا بالتّوبة والصّلاة، أدوات، بما تخلّفه من آثار متحرّكة مشاغبة في النّفس والجسد، لإحقاق يقظة، والإقامة في سهر، واقتناء وعي يجعل حالة التّوبة متّقدة في النّفس. هكذا يستحيل اليباس وقودًا، بالتّوق والشّوق إلى الكلمة الإله، وما تفحَّم ممّا احترق، تحت ضغط التّصميم والثّبات، ماسًا، ما يجعل الخطيئة، من حيث لا يدري الخاطئ ولا يدرك، مادّة للخلاص، بنعمة الله!. هكذا ما يكون قد اصطادنا الشّرّير به، أعني الخطيئة، يَضحى بالأوجاع الّتي يخلِّفها فينا سببًا لتوبة تفضي بنا إلى سيرة لا إمكان عودة إلى الخطيئة فيها. والموت الّذي أتانا بالخطئية يصير لنا، بالنّعمة، مَعينًا لحياة جديدة، هي حياة الله، لا موت فيها من بعد!.
في العنصرة، اليوم، يأتي الّذين عانوا الخطيئة فتابوا إلى ملء روح المحبّة يقيم فيهم، والّذين كابدوا الموت إلى ملء روح القيامة من بين الأموات. تبارك الله!.
الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي
دوما – لبنان
19 حزيران 2016