يوحنّا المعمدان السوريّ

الأب جورج مسّوح Wednesday June 22, 2016 158

كان السيّد المسيح داعية سلام. كان يؤمن بقدرة الإنسان على تحقيق السلام “هنا والآن” في العالم الراهن لكلّ جيل من الأجيال التي توالت منذ أيّامه على الأرض إلى يومنا الحاضر. لكنّ جميع الأجيال فشلت في بسط السلام على أرجاء المعمورة كافّة. وما زالت الدنيا تشهد صراعات ونزاعات وحروبًا داخليّة وخارجيّة وما ينتج عنها من احتلالات ومجازر وارتكابات وتهجير وتطهير عرقيّ.

لكن هل على طالبي السلام أن يصمتوا أمام الظلم والقمع والاعتداءات والاحتلالات والفساد، أم عليهم أن يجاهروا بكلمة الحقّ؟ هل السلام استسلام أمام طغاة الأرض وجبابرتها، أم التسلّح بالشجاعة والإقدام لردّ الظلم وصدّ الظالمين؟ أليس الصمت وغضّ النظر عن الانتهاكات اشتراك في الجريمة؟

كان القدّيس يوحنّا المعمدان مدركًا مصيره حين صدع بالحقّ في وجه هيرودس الذي خالف الشريعة. أدرك يوحنّا أنّه سيموت إن استمرّ في توبيخ هيرودس. مع ذلك لم يستسلم يوحنّا مصمّمًا على تذكير هيرودس بمقتضيات الناموس وتعاليم الأنبياء، إلى أن قطع هيرودس رأس يوحنّا وقدّمه على طبق هديّةً للزواني والغواني.

لقد أمر هيرودس، وفق الرواية الإنجيليّة، بقطع رأس يوحنّا بناء على طلب من هيروديّة امرأة أخيه فيلبس. ذلك أنّ يوحنّا قد أنّب هيرودس مندّدًا باستهتاره الخلقيّ المشين الذي دفعه إلى التعلّق بهيروديّة والعيش معها بدون تورّع ولا تحرّج. فثارت ثائرتها لجسارة يوحنّا ومناداته بالحقّ، فأوعزت إلى ابنتها سالومة، بعد حفلة ماجنة رقصت فيها، أن تطلب إلى هيرودس إعطاءها رأس يوحنّا على طبق.

غير أنّ المؤرّخ يوسيفوس يورد رواية أخرى يعزو فيها مقتل يوحنّا إلى خوف هيرودس من أن تُتّخذ دعوة يوحنّا ذريعة لحركة ثوريّة تطيح به. فاستبق الأمر بأن أمر بقطع رأسه. هيرودس الفاسد لم يكن يهتمّ برأي الناس الأخلاقيّ به، بل كان خائفًا على عرشه من شعبيّة يوحنّا، ومن تحوّل الموقف الأخلاقيّ منه إلى موقف ثوريّ يطيح به.

سورية هي برّيّة يوحنّا “هنا والآن”. هيرودس لم يشبع بعد، ولن يشبع. كم يوحنّا قد قطُع رأسه، وهيرودس لم يرتوِ بعد من مشهد الدم المدرار. في سورية، اليوم، لا يوجد هيرودس واحد، بل هيرودسات عدّة يستبيحون المجازر والقتل وقطع الرؤوس والتهجير. هيرودسات العالم كلّهم اجتمعوا على السوريّين كما تحوم النسور الجائعة إلى الجثث. هيرودسات سوريّة وعربيّة وأجنبيّة، أو قل دراكولات هذا العصر، لا يرويها إلاّ المزيد من دماء السوريّين.

“لقد مات طالبو نفس الصبيّ”. بهذه الألفاظ بشّر ملاك الربّ يوسف، خطّيب مريم والدة يسوع المسيح. الملاك يبشّر بموت هيرودس جد هيرودس المذكور. الموت بشرى جميلة يحملها الملاك، ملاك البشارة، إلى يوسف. نعم، كان خبر موت هيرودس خبرًا مفرحًا حمل البشرى للكثيرين ومنهم يوسف ومريم. ولسنا نخطئ إن فرحنا معهما واغتبطنا كلّ الغبطة.

متى سيموت طالبو نفس الصبيّ؟ ليس مجرّد سؤال بل هو صلاة حارّة نرفعها في عيد مولد المعمدان (24 حزيران). متى سيموتون؟ سؤال بمثابة دعاء يخرج من القلب يحمل رجاءً، ونحن أبناء الرجاء، بأن كفى سفكًا لدماء الأبرياء. نعم، لن يمنعنا احد من أن نسرّ ونفرح ونبتهج حين نسمع أنّ هيرودس واحدًا قد مات، فكم بالأحرى كلّهم.

الأب جورج مسّوح

موقع ليبانون فايلز، 22 حزيران 2016

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share