“المشرق” في البازار السياسيّ

الأب جورج مسّوح Wednesday November 23, 2016 240

“المشرق” اصطلاح كنسيّ يفيد البلاد التي تقع ضمن رئاسة بطريرك أنطاكية، أي البلاد التي تضمّ مدينة أنطاكية وسورية وكيليكية والبلاد الكرجيّة (جمهوريّة جورجيا الحالية)، وما بين النهرين. “المشرق” هو البلاد التي كانت أنطاكية، مدينة الله العظمى، كبرى مدنها، كما كانت روما عاصمة الغرب، والقسطنطينيّة كبرى مدن آسيا الصغرى واليونان، والإسكندريّة بوابة إفريقية وأهرائها، وأورشليم القدس عاصمة فلسطين.

المشرق، إذًا، تعبير كنسيّ يشير إلى الوحدة المسيحيّة في نطاق جغرافيّ محدّد، هو النطاق الأنطاكيّ. لذلك يرتبط لقب بطريرك أنطاكية بعبارة “وسائر المشرق” للدلالة على وحدة الكنيسة، ووحدة رئاستها، في هذه البلاد. وبقي هذا اللقب مرتبطًا بالبطريرك الأنطاكيّ عبر التاريخ إلى أيّامنا هذه، حتّى بعد استقلال الكنيسة الجورجيّة عن الكنيسة الأنطاكيّة.

المشرق، إذًا، تعبير كنسيّ، وليس سياسيًّا. لكن ثمّة مَن يستعمل هذا التعبير في السياسة من أجل شدّ العصبيّة المسيحيّة لاستثماره في مشاريع سياسيّة وحزبيّة، لا ناقة للكنيسة ولا جمل فيها. “المشرق” هو التعبير الأمثل لكيفيّة الاستغلال السياسيّ للدين والكنيسة وتوظيفهما في سبيل مصالح سياسيّة لقادة طائفيّين ولأنظمة سياسيّة معيّنة. والأدهى حين يُستغلّ هذا التعبير في الحرب الدائرة حاليًّا في سورية.

لا بدّ من الإشارة إلى أنّ استعمال تعبير المسيحيّين المشرقيّين ليس خطأ، بل أمر طبيعيّ، إذا أتى في السياق الكنسيّ. أمّا مَن ينزلق إلى الحديث عن المسيحيّين المشرقيّين وعن وحدتهم، في السياق السياسيّ، فهو يصادر حرّيّة المسيحيّين وينصّب نفسه ناطقًا باسمهم، وبخاصّة أنّ المسيحيّين المشرقيّين ليسوا أبناء وطن واحد من الأوطان القائمة، وكلّ منهم متمسّك بوطنه، وليسوا كلّهم يرضون بزعيم من وطنهم أو من وطن جار ينصّبونه عليهم من دون الأخذ برأيهم.

ما يثير الالتباس أيضًا في الاستعمال السياسيّ لتعبير “المشرق”، هو أنّ الذين يستغلونه في البازار السياسيّ إنّما يروّجون لما يسمّى بحلف الأقلّيّات، ممّا يؤدّي إلى المزيد من التشتّت الطائفيّ والتشرذم المذهبيّ والفتن الداخليّة، والمزيد من القتل والتهجير والتدمير، وإلى تشظّي أوطاننا إلى دويلات ذات لون واحد. لكن ما يغفل عنه المسيحيّون المشرقيّون هو أنّهم لا يمكن جمعهم في كيان واحد، بل سيكونون موزّعين في كلّ ما يمكن أن ينشأ من كيانات مذهبيّة. وبذلك يفقدون مشرقهم، ويفقدون دورهم، ويفقدون نكهتهم وروحهم.

المنخرطون في المشروع “المشرقيّ” يقبلون بأن يكونوا جزءًا من محور سياسيّ حربيّ يستعين بقوى أجنبيّة لها مصالحها التوسّعيّة في منطقتنا، ومن البديهيّ القول إنّ مصير المسيحيّين أو المسلمين هو آخر ما يعني هذه القوى. وقد شهدنا في التاريخ الحديث أمثلة حيّة عن تخلّي القوى العظمى عن المسيحيّين بعد أن استدرجتهم إلى جانبها، الأرمن تخلّت عنهم روسيا وفرنسا، السريان والروم تخلّت عنهم فرنسا لصالح تركيا الأتاتوركيّة، الآشوريّون باعهم الإنكليز في العراق… أمّا في دمشق 1860 فتشهد مذكّرات ديمتري الدبّاس لتخلّي روسيا عن دعم الأرثوذكس بعد أن استنهضتهم ضدّ الدولة العثمانيّة.

المسيحيّ السوريّ واللبنانيّ مشرقيّ كنسيًّا، نعم. أمّا أن يسعى بعضهم إلى مشروع سياسيّ تحت لواء “المشرقيّة”، فهذا لن تكون نتيجته سوى المزيد من انحسار المسيحيّين وانحسار دورهم وحضورهم. لكن أيضًا المشروع المشرقيّ هو هدم لجسور حاول بناءها المسيحيّون مع المسلمين، هو اغتيال لدورهم الرائد.

الأب جورج مسّوح

موقع ليبانون فايلز، 23 تشرين الثاني 2016

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share