تواكبت بواكير الرسوم الكنسيّة مع نشوء الكنيسة الأولى، لكن ليس من دون اعتراضات جدّيّة أبداها بعضهم بالاستناد إلى الحظر الوارد ذكره في العهد القديم: “أنا الربّ إلهك الذي أخرجك من أرض مصر، من بيت العبوديّة. لا يكن لك آلهة سواي. ولا تصنعنّ لك وثنًا ولا شبه كلّ ما في السموات فوق، وما في الأرض أسفل، وما في الماء تحت الأرض، لا تسجد لها ولا تعبدها” (خروج 20، 2-5).
يُعتبر الكاتب العربيّ الأسقف ثاوذورس أبو قرّة (+825) أسقف مدينة حرّان الأرثوذكسيّ، والذي تضفي عليه بعض المخطوطات القديمة لقب “قدّيس”، من أهمّ المدافعين عن شرعيّة الصور المقدّسة وإكرامها. لذلك يميّز ما بين سجود العبادة الذي لا يليق إلاّ بالله وحده، وسجود الكرامة. وفي ذلك يسأل ثاوذورس المعترضين على إكرام الصور: “السجود إنّما تجعلونه للشيء الذي تقع الركبتان عليه والجبهة، أم لما تريده النيّة بوقوع الركبتين والجبهة والانحناء؟”.
فالساجد لله لا يسجد للتراب أو للحائط الماثل أمامه، بل يسجد لله غير المرئيّ. هكذا بالنسبة للصورة، فالساجد أمامها لا يسجد للخشب والألوان، بل لصاحب الصورة: “كذلك، نحن النصارى، إذا سجدنا بين يدي صورة المسيح والقدّيسين، إنّما سجدتنا ليس لتلك الدفوف (الخشبيّة) والألوان، بل إنّما للمسيح المستوجب السجود له في كلّ نحو، والقدّيسين المستوجبة على وجه الكرامة”. كما يلجأ ثاوذورس إلى القرآن للتأكيد على التباين ما بين السجود لله والسجود للأنبياء، فيقول: “إنّ السجود قد يكون على وجه الكرامة… إنّ يعقوب وبنيه خرّوا ليوسف سجّدًا (سورة يوسف، 100)”.
أمّا عن الحظر الوارد في العهد القديم فيعتبر أبو قرّة أنّه ليس مطلقًا ولا نهائيًّا، فيقول إنّ هذا الحظر “ليس يريد الله به ألاّ يصنع لهم المؤمنون به أشباهًا وتماثيل بتّة، بل إنّما نهاهم عن الأشباه التي كانوا يصنعونها ويعبدونها، وتحيد بهم عن معرفة الله وعبادته”. كما يقول أبو قرّة إنّ الله نهى عن السجود للأوثان لأنّ الأمم كانت تعتبرها آلهة وتقدّم لها العبادة. أمّا السجود والانحناء أمام مَن يستحقّ التبجيل للدلالة على مجرّد الإكرام فلم يحظّره الله. وقد أدرك الرسل معنى هذا الحظر وأسبابه، فأذنوا للمسيحيّين بالصور لأنّه “لا يُخاف عليهم ما كان يُخاف على اليهود” من الانحراف.
أمّا تجاه الذين كانوا يحتجّون ضدّ الأيقونات بذريعة عدم ذكر الصور في الكتب المقدّسة، فكان له موقف واضح ومتقدّم جدًّا، وبخاصّة ضدّ الذين كانوا يحاربون التراث والتاريخ بالنصوص المقدّسة. وفي ذلك يقول ثاوذورس أبو قرّة إنّ عدم ذكر الصور في الكتب المقدّسة لا يعني أنّه يجب إبطالها، وإلاّ فقد لزمنا إبطال الكثير ممّا ورد للكنيسة عن طريق التوارث، ثمّ إنّ الكتاب المقدّس ليس وحده مصدر الأصول المسيحيّة: “إنّ الكثير ممّا هو عظيم في أيدينا إنّما فهمناه ووصل إلينا توارثًا، من غير أن نجد له ثبتًا في مصحف من المصاحف العتيقة والحديثة التي أسلم إلينا التلاميذ”. ومن هذه الأمور الأيقونات.
إنّ إكرام الأيقونات ليس شرعيًّا وحسب، بل هو، وفق أسقفنا الأرثوذكسيّ ثاوذورس، يجلب البركة والطوبى لمكرّميها: “طوبى لـمَن صوّر ربّنا وسجد لصورته، وصوّر قدّيسيه وسجد لصورهم تكرمةً لهم، واستعانةً بصلواتهم، وتحرّكًا إلى الاقتداء بهم”. الأيقونة، إذًا، هي الإنجيل مصوّرًا. فإذا ما نظر إليها الماثل أمامها يتذكّر أنّه مدعوّ هو أيضًا أن يستعيد الصورة والمثال في ذاته، أن يصبح هو نفسه أيقونة.
الأب جورج مسّوح
موقع ليبانون فايلز، 8 آذار 2017