“المعلّم” ينتظر… “الكلمة تُعطَى من فوق”
المصدر: “ا لنهار” هالة حمصي
9 آذار 2017
ينتظر “المعلّم” كل يوم، كحبيب مشتاق. “انها علاقة حب”، يقول من وحي اللحظة. هذا الانتظار عمره عقودا، لا ينتهي عند متروبوليت جبل لبنان للروم الارثوذكس #المطران_جورج_خضر. ما ينتظره “يأتي من فوق، من الله”، “كلمة” تحط بين اصابعه، في اتكائه على ورقة بيضاء، كل يوم. انه المُبَلِّغ، و”ليس لدي كلام من نفسي”، يؤكد لـ”النهار”. ويُعطي “ما أُعطِيَ”، ويود “ان يختفي”.
كلمات معطاة من فوق، على امتداد قرون. رؤيا الهية، “انتظار واحد”، امر يثقل على الكاهل، “صوت الله”… وثقة اكيدة: “المحبة هي الوحيدة المنتجة”. في جعبة “المعلم” فيض من الكلمات التي سكبها في عظات. وجمع اخيرا مئات منها القاها خلال مدة اسقفيته من 1972 الى 2015، في 3 مجلدات عنونها “المعلّم”.
وكان هذا الحديث معه.
*عقود في التعليم. أنت معلّم. ماذا فعلت بك كل تلك السنوات من التعليم والكتابة والبناء والتبشير بكلمة الله؟
-ما تعلمته من نفسي في هذه الخبرة ان الكلمة تُعطَى، بحيث ان الذي استلمها مضطر اضطرارا الهيا الى ان يُبَلِّغَها. عندي انا، الكلمة تُعطَى من الله. ثمة من لديهم كلماتهم التي يختلقونها. وثمة من لا يعرفون انفسهم الا انهم آتون من فوق، وانهم مُبَلِّغون. بَلِّغ أنك مُبَلِّغ، او ذَكِّر بأنك مُذَكِّر.
*انت تَلَقَّيتَ، بَلَّغْتَ… هل غيَّرتك هذه الكلمة التي تَبَلَّغْتَها؟
-لا ارى نفسي شيئا الا مُبَلِّغًا. ليس لدي كلام من نفسي. وارجو ان اكون امينا. الله يحكم.
*هناك انتظار يومي. تنتظر هذه الكلمة، ان تُعطَى لك من فوق. هل هذه الانتظار متعب لك، جميل، مسؤولية، همّ؟
-عندما يقول يوحنا الانجيلي: “في البدء كان الكلمة”، كان يحسّ، على ما اقرأ كلماته، ان الانسان مجرد رسول لله، وليس عنده شيء. “يعطي ما أُعطيه”، ويختفي.
انتظار واحد
*خلال العطاء، هل لديك تطلعات، او ربما انتظارات، ام تختفي هي ايضا؟
-ليس لدي سوى انتظار واحد وهو ان اتوب.
*هل استطعت ان تتوب؟ هل تبت؟
-ليست التوبة عميقة دائما، او ثابتة. هناك تردد احيانا. لكن نرجو ان الله لم يتركني اتردد.
*رسالة التعليم التي خضتها عقودا طويلة ادخلتك حركة متواصلة من التلقي والعطاء. هل كانت سهلة عليك؟ هل اعتدتها؟
-لا، طبعا. ان يكون الانسان مُبَلِّغاً لله فقط امر صعب، لان الانسان شهوات ورغبات وتخبصات. عليه ان يخلص اولا لله فقط، وليس لرغباته وافكاره الخاصة، اي ان يترك عمدا وبوضوح كل شهواته، ان يموت في الحقيقة. وهذا لا يحصل الا بنعمة الله.
علاقة حب
*قلت ان الكلمة تُعطى في فوق. وهذا يعني انه لا بد من علاقة بين الله ومتلقي الكلمة. كيف تصف تلك العلاقة؟
-“انما الدين عند الله الاسلام”، بالمعنى اللغوي للكلمة. اذا اقتنع المرء بان يسلّم ذاته لله طوال حياته، فيصير كل الباقي سهلا. انها علاقة حب تبدأ باقتناع المؤمن المتبتل، اي المنصرف، بان الله هو كل الوجود. وبالتالي تهون الامور. يجب ان يرى هذا الشيء داخليا كثيرا. يجب ان يكون سائرا في هذه الرؤيا.
*ثمة اجيال كبيرة تربّت على تعاليمك. وهناك ايضا اجيال شابة تتعرف اليها. ماذا يعني لك ذلك؟
-انا فقير، وابقى فقيرًا. واتوا اليّ لاقدمهم الى الرب. نعم، في الامر مسؤولية. لقد احببتهم. السؤال بسيط، والباقي هو هل انا اخلصت؟ ام احتفظت بهؤلاء الناس لي، لفرحي بهم؟ ام انني سعيت حقا، صادقا، الى ان اسلمهم الى الرب؟
*تفكر كثيرا في الامر؟
-نعم، طبعاً.
*هل يتعبك ذلك؟ هل يثقل على كاهلك؟
-نعم، يخشى الانسان ان يكون مفتشا عن اهوائه في ما يظن انه لله.
*تلقيت الكلمة من فوق عقودا. ولدى المعطي رؤيا. هل امكنك مع الوقت ان تتلمسها قليلا؟
-الرؤيا هذه هي ان كل شيء في هذا العالم لله. واذا حدنا نحن عن هذا، فنرى ان هناك اشياء لنا. وهنا الالحاد، لان المهم ان نعترف لله فقط.
*في عالمنا اليوم، تيارات واساليب حياة تبعد الناس عن الله، ولا يعود فيها الاعتراف به اولوية او حتى ضرورة. كيف نواجه هذا الابتعاد المتنامي عن الله؟
-انها نعمة من فوق، وتعطى قليلين الذين يعيشون في كل تقواهم على انهم لا شيء، وانهم مجرد صلة بين الناس والله.
هو كل شيء
*في الانجيل، هناك “المعلم” يسوع المسيح. ماذا يقول لك اليوم، وانت الذي تعلّم باسمه؟
-هو كل شيء. ولا يُضاف الى المسيحي كلمة. ونحن مفترقون عن الله ان لم نبقَ متّحدين بالمسيح في كل شيء، في كل نسمة من نسمات حياتنا. وعند ذلك لا نسأل عن شيء آخر.
*هل اخترت طريق الكهنوت، لانك سمعت صوت الله في مكان معين من حياتك؟
-لم يكن صوتا واضحا، لانه في القلب. يسمع المدعو ان الرب هو كل الوجود، وكل الحياة ان نتحرك اليه. وارجو ان اكون تجاوبت مع ذلك.
*هل من الصعب ان نسمع صوته؟
-لا، ليس صعبا. هو يتكلم دائما. يقول السيد في سفر الرؤيا: “ادق الباب ومن يفتح لي الباب ادخل اليه”. علينا ان نفتح الباب.
*الحياة مع المسيح ليست سهلة دائما، او مباهج كما يُعتقد. ماذا في المقابل؟
-نعم الحياة صعبة معه. ماذا في المقابل؟ هو هو فقط.
*هل يحق للمعلم ان يتعب، ان يستريح؟
-بالطبع يتعب. لكنه يعلم ان الله لا يقطع نعمته عن انسان، وانه يجب ان يستمر في العطاء، في الدعوة، كي يبقى البشر في رؤية الله وفي اتحاد به.
لا ينتج الا الحب
*هل ثمة ما تود تحقيقه بعد؟
-لما صار يوحنا الحبيب اسقفا على آسيا الصغرى، سأله المؤمنون: لماذا تردد لنا “احبوا بعضكم بعضا”؟ اجاب: هذا كل ما تعلمته لما كنت متّكئًا على صدر المعلم. وهذا ما احاوله.
*حروب، اضطهادات تعصف بالمسيحيين في المنطقة. كيف يمكن في زمننا الحالي ان يعيشوا وصية المعلم وان يحبوا اعداءهم الذين يقتلونهم؟
-لا ينتج الا الحب فقط، ايا تكن الظروف. المحبة هي الوحيدة المنتجة.
*ماذا تقول لمسيحيي الشرق في هذا الزمن الصعب؟
-لقد وعدكم المعلم بالاضطهادات. لم يقل انه ستكون لكم حياة مريحة. الناس يتعبون من المحبة، وايضا من ان يُحَبُّوا. لا نعرف وسيلة اخرى الى الخلاص سوى ان نحب الناس كما هم، يوما فيوما، كي يحيوا، ونحيا نحن ايضا معهم.