حديث الصوم الاول مع سيدنا انطونيوس الصوري في الميناء
لبّى جمعٌ كبير من المؤمنين دعوة مجلس رعيّة الميناء وحركة الشبيبة الأرثوذكسيّة – مركز طرابلس – فرع الميناء للمُشاركة في حديث الصوم الأربعيني المقدَّس الأول لهذا العام، مع متروبوليت زحله وبعلبك وتوابعهما المتروبوليت أنطونيوس (الصوريّ)، حول موضوع “معرفة الذات: طريق إلى التوبة”، في قاعة الأخ كوستي بندلي- بيت الحركة، وذلك بعد المُشاركة في صلاة الغروب مساء الأحد الواقع فيه 2017/3/5، بحضور قدس الإيكونومس ميخائيل الدبس، الآباء باسيليوس دبس، جوزف عرب، نقولا رملاوي والشمّاس بشارة عطالله.
بعد كلمة ترحيبية لمقرّر لجنة التربيّة الدينيّة والإعلام الأخ فادي واكيم شكر فيها سيادته على موافقته المشاركة بين أهله ورعيته التي نشأ فيها، ثمّ أعرب سيادته عن شكره وامتنانه لراعي أبرشية طرابلس والكورة وتوابعهما سيادة المتروبوليت أفرام (كرياكوس) على بركته الدائمة وإفساح المجال له للمشاركة في هذه المناسبات، فضلاً عن كهنة الرعية وأعضاء المجلس الكريم مع حركة الشبيبة الأرثوذكسية وجميع الحاضرين على محبتهم مُتمنياً صوماً مُباركاً وموسماً مُقدَّساً، على أن تعّم فائدة هذا اللِّقاء الجميع.
بداية الحديث، وإنطلاقاً من فكرة ولوج الإنسان إلى ذاته كسبيلٍ لسلوك درب التوبة، طرح سيادته عدّة أسئلة استمزج من خلالها آراء الحاضرين وأفكارهم، أهمها:
ماذا تفهمون عن معرفة الذات؟
ما هو مقدار معرفتكم لأنفسكم؟
هل توجد مقاييس يمكننا الإستناد عليها للقول بِمعرفة أنفسنا؟
كم يقدِر كلٌ منا حقيقةً أن يعرف نفسه بِجهده الخاص؟
هل جهدنا الخاص أو العلمي يُساعدنا على معرفة أنفسنا، أم علينا طلب شيء آخر؟
هل يمكننا تحديد الأمور التي تعرفوها عن أنفسنا إنطلاقاً من هويتنا كبشر؟
من هو الإنسان الذي يقودنا إلى معرفة نظرتنا لأنفسنا، وما الذي يؤثر عليه؟ وما علاقته بالربّ؟
اعتبار أن الانسان قمّة خليقة الله، ماذا يعني ذلك؟
ماذا يجب أن يرى الإنسان في نظرته إلى ذاته، وكيف يرى الربّ فيها؟
ما مدى صحّة مقولة، أن الربّ يسوع أتى إلى العالم كيما يُعرّفنا على الإنسان الكامل، وبالتالي على حقيقتنا من خلاله؟
بما أن على الإنسان أن يدخل في ذاته بِمعونة الروح القُدس، هل هناك مقياس واحد لكل الناس، أو لكلٍ منّا مقياسه كي يستطيع معرفة نفسه؟
هل صحيح أن محوريَّة الربّ في حياة الإنسان تدُل على سيره على الطريق الصحيح نحو التوبة؟
كيف نتأمل في معرفة وفحص ذواتنا؟ وما هو المقياس الذي سيعتمده الإنسان في محاسبة نفسه والإرتقاء بها؟
كما أوضح سيادته، بعد تعريفه لِلخطيئة والتوبة وعمل المسيح في إكمال الوصايا العشر، المراحل التي يَمر بها الإنسان لِمعرفة ذاته، أوُّلها أن الإنسان في فكرنا المسيحي، هو على صورة الله على الأرض، وتأتي قيمته من خلال إرتباطه بالصورة الإلهيّة من كونه على صورة الله، مِمّا آل به أن يُصبح قمّة الخليقة، لأن الربّ خلق الكون والحيوانات ومن ثم الإنسان كما قال: ” نخلق الإنسان على صورتنا كمثالنا، فخلق الله الإنسان على صورته”.
بالسؤال عن ما معنى كوننا على صورة الله، وماهية صورة الله الكائنة فينا.
أجاب سيادته، أن النفس البشريّة لاهيوليّة، غير مادية بِالنسبة للجسد، لكنها مادية بالنسبة لألى الله الغير مادي.
في السِياق ذاته، استشهد بما ورد في سفر التكوين: “فخلق الله الإنسان على صورته ذكراً وأُنثى خلقهم”، كأنما الإنسان هو الذكر والأنثى معاً بمعنى أن الإنسان هو كائنٌ في شركة، بحيث لا يُعتبر إنساناً دون الآخر.
استناداً إلى حدث خلق آدم وحوّاء الوارد في الإصحاح الثاني من سفر التكوين “ويترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته بحيث يصير الإثنان جسداً واحداً”، نرى كيف أسَّس الربّ لِسرّ الزواج وكشف في الوقت عينه جوهر الإنسانيّة، وأن الإنسان هو هذا الشخص الذي يسعى للإتحاد بآخر الذي لا يتم الَّا عبر الله، وأن حياة الإنسان مرتبطة بآخر يُحبّه ويسعى إلى الإتحاد به.
الآخر الذي سنتحد به بالمطلق هو الله، والحياة الزوجيّة وفيما بيننا هي نوع من التدريب على الحُب، والخروج من أنفسنا كي نلتقي بالآخر، ونفرّغ أنفسنا كي يسكن الآخر فينا لِنتحد به، وفي معرفتنا لأنفسنا يجب أن يكون لدينا الوضوح بامتلاكنا ميزة كوننا خليقة على صورة الله التي تتجلّى بعدة وجوه، أهمها موضوع المحبّة التي تتبلور بالحياة والسعي للإتحاد بالله والآخر، وإذا لم يعرف الإنسان جوهرية هذه العناصر في وجوده، يكون جاهلاً لِنفسه ولا يعرف بالتالي كيفيّة عيش حياته كي يصل إلى تحقيق ذاته.
بعدها إنتقل سيادته إلى تعريف السقوط، مِن خلال تجربة آدم وحوّاء، ومُخالفة وصيَّة الله لِلحياة والمصير الذي آلا إليه، بكسر علاقة الحب بين الله والإنسان، ودخول الشك من خلال كلام الحيّة الذي دغدع شعور الإنسان الداخلي المتوجِّه نحو الألوهة، والطوق إلى ما هو أعظم منه، وسيطرة الأنانيّة عليه عبر شعوره بالألوهة بمعزل عن الإله الحقيقي، وصولاً إلى القضاء على الحُبّ بين الله الإنسان، الذي خان محبة الله وأصبح مُشبعاً بمرض الأنانيّة الذي ساد البشريّة.
ومن أجل هذا، يقول الإصحاح الثالث من سفر التكوين: “الإنسان ميٌال إلى الشر منذ حداثته”، كونه خرج من عِشرة الله وتربى ضِمن بيئة مليئة بالأنانيّة حيث رأينا جريمة قتل قايين لأخيه هابيل حسداً، كما قتل اليهود المسيح .
وأكمل مُشدّداً إن الأنانيّة في عُمقها، تُشكِّل استهلاكاً لكل شيء لله والآخر والوجود ولِلنفس دون وعي الإنسان الذي يعتقد بِتحقيق وجوده بِمعزلٍ عن الله أنّه بالحقيقة يكون أمام إفناء ذاته، لأن وجوده مُرتبط بوجود الآخر في الإزائيّة كما خلق له حواء معيناً له بإزائه.
وأردف مُصرِّحاً أن وجود الإنسان مُرتبط بالآخر في الإزائية بالحبّ وفي الإزائيّة بالوحدة وهو مدعوٌ إليها، في التمايز على صورة الثالوث.
وبِالسؤال أجاب سيادته، أن الربّ سمح بِالسقوط لأن في الحبّ حُريّة ولا حُبّ دون حريّة، وأن ضريبة السقوط هي الدخول في الموت وانحراف الطبيعة البشريّة عن مسارها الطبيعي، وأن الناموس وُضِعَ كي يُكيِّف الإنسان ويساعده للوصول إلى زمن النِعمة، وجاء الربّ يسوع وجدّد الطبيعة البشريّة والإنسان وأعاد إعطائنا الروح القدس الذي خسرناه بالسقوط.
وأكَّد أن السقوط هو حدثٌ مُستمر وليس تاريخياً، لأنه في كل مرة يرتكب الإنسان الخطيئة يكون أمام تفضيل طاعة ذاته على طاعة الله، وتفضيل نفسه على محبة الله، الدخول في حالة الدائرة المُفرغة للأنانيّة.
الإنسان إجمالاً، لا يرى بوضوح أنانيته ولا يستطيع تحديد كيفية كونه أنانيّاً في ضوء تحميل أخطائه الشخصيَّة للآخرين دون الإمتداد نحوهم لتقديم الإعتذار والتواضع.
كما شدّد، أن معرفة الذات كمرحلة أولى هي أن يدرك الإنسان خطاياه، وعند ذلك يرى حضور الله معه ورحمته، ولا يمكن أن تلمُس معرفة الله دون إدراك خطايانا، ولا يمكننا رؤية نعمة الربّْ.
تابع سيادته التساؤل حول كيفيّة رؤية خطايانا، وما الذي يُساعدنا في ذلك؟
كيف يمكن لِلذين لم يعرفوا الربّ يسوع والذين عرفوه تفحّص خطاياهم؟
كيف تساعدنا الصلاة اليوميّة في معرفة أنفسنا؟
لماذا يتفاعل الإنسان مع الوجود بِالطريقة التي يتفاعل بها؟
في هذا المجال أشار إن وعي وإدراك الإنسان لِتصرفاته وأفكاره لا يتعدى نسبة عشرة بِالمِئة، مُنوهاً بوجود وسائل علميّة مُساعِدة على الغوص إلى داخله أكثر.
وأكمل بقوله إننا تعلمنا من آبائنا القدّيسين كيفيَّة غوص الإنسان في نفسه أكثر، مُرشدين إيّانا إلى العديد من الوسائل واضعين لنا نظام الحياة الكنسيّة والصلوات اليوميَّة التي تُشعِرنا أن كتبتها هم من أكبر الخطأة.
وأضاف، معرفة النفس تتمثَّل بِإقرار الإنسان بخطاياه من ناحية أولى وعدم التهرُّب مِنها، وان لا يبقى في حالة التمثيل على نفسه والإختِباء خلف الصورة التي يريد أن يرى نفسه ضِمنها والتي يسعى أن يراه الناس فيها، هنا تكمن الخطورة، حين يُبرِّر الإنسان لِنفسه أموراً كثيرة حٍفاظاً على الصورة التي يريد الظهور فيها، والتي تُسبب له أزماتٍ في داخله لإدراكه بأنه ليس كهذه الصورة وفي الوقت عينه لا يمكنه أن يكون إلَّا ضِمنها لِكونها نِتاج تربيته، بيئته وأهله، كنيسته والجو الذي ترعرع فيه مذ كان صغيراً. وإن معرفة الإنسان لِنفسه هي التنقيّة من كل شيء دخيلٌ ومُتسلطٌ عليه يقوده لِسلوك ما هو بعيدٌ عن حقيقته مِمّا يجعله في صراعٍ داخلي دائم يحجب عنه الراحة والسلام الداخليّين.
وأكمل، أن أزمة السقوط، تسببت في انفصال الإنسان عن نفسه، بِحيث أصبح مُنقسماً على ذاته ويعاني من ازدواجٍ في الشخصيَّة، وفق قول الآباء، وأن الجِهاد الروحي والتوبة الحقيقيّة هما السبيل لاستعادة وِحدة الإنسان لِشخصه، باعتبار كينونته مُحدّدة من الله بِوجودها وغايتها، وأن الله يدعونا لِنصير آلهة على مثاله، كما نقول في الميلاد “اصبح الاله انساناً، ليصير الانسان الهاً”.
وأردف، أن غاية وجودنا أن نتألّه حاملين بطبيعتنا وبوجودنا هذا التوق والشوق، ولكن بِالسقوط شوّه الإنسان إدراكه لِهذه الحقيقة، لأنه فصل الله عن حياته، وجاء المسيح لكي يُعيد هذه الوحدة بين الله والانسان، وإلى هدف حياته وطبيعته الحقيقيّة.
في سِياقٍ مُتصل، تطرّق سيادته إلى المعموديّة كشرطٍ أساسيٍ لانتماء الإنسان إلى الكنيسة، والتي تعني موت الانسان العتيق والولادة الجديدة على صورة المسيح، كي يعود ويسكن في روح الربّ ويُصبح لديه كل الإدراك والقوّة والإمكانيّة بأن يحقق هدف حياته الذي خلقه الله لأجله.
كما بيّن أن الوجه الآخر لمعرفة أنفسنا لا ينحصر فقط بِمعرفة خطايانا وضعفاتنا، بل يتعدّاه إلى معرفة حقيقتنا وقيمتنا الإلهيَّة، كمسيحيّين مُعمّدين ولسنا بشراً فقط من لحم ودم، إنما أُناساً الهيّين سكن فينا الروح القدس بِنعمة المعموديّة والميرون والذي نُجدّده ويُجَدَّد فينا بكافة الأسرار الإلهيّة، لا سيما القدّاس الإلهي.
تابع مؤكداً بوجود وجهين مُهمين لحقيقته، أولهما ان الإنسان رُسِمَ على صورة الله وثانيهما أنّه قمّة الخليقة، وكلّها لأجل الإنسان، والإنسان لأجل الله حتى يصير على مثاله، هذه هي الحياة والوجود، مُبدياً أسفه لابتعادنا عن الله وخسارتنا لِهذا الإدراك، وأن علينا العودة إلى التوبة، النقاء والطَهارة، حتى نعود إلى هذه الحقيقة الوجوديّة الملموسة والحقيقيّة غير الخياليّة، مُعتبراً القديسين شهوداً على صدق هذه الحقيقة، من أجل هذا عندما يتطلع الإنسان إلى ما يجب أن يكون عليه، يراجع حساباته ويتطلع إلى نفسه.
أما أهم الوسائل التي تساعدنا على التوبة فهي:
العيش بقناعةٍ، وأيضاً كبشرٍ تكمن مشكلتنا الكبرى أننا عِوض التطلع إلى أنفسنا من خلال الربّ يسوع والقدّيسين، ننظر إليها من خلال مقارنة أنفسنا بالآخر كالفرّيسي الذي يعيش لِنفسه فقط والعشّار، بمعنى، أنّه لا معنى لِحياتنا دون وجود الآخر فيها أو إقصاءِه منها، وأن المؤمن لا يُٰخاصم الآخر ولا يُقصيه، عملاً بِقول القديس سلوان الآثوسي “أخي هو حياتي” بٍخلاف رأي الفلاسفة الوجوديّين كسارتر الذي قال “الآخر هو الجحيم”.
بالنسبة لِلنقطة الثانية، استمع سيادته إلى نظرة الأخوة الحاضرين حول موقع الآخر في حياتهم وكيفيّة التعاطي معهم، القريب والبعيد الذي يُزعجنا والذي يُريحنا، إضافة الى علاقتنا مع الوجود والحياة وكلُّ شيءٍ ماديّ ومعنويّ.
أمّا النقطة الثالثة الجوهريّة التي تنطلق منها الٰنقطتين الآنفتين، فهي موقع الله بحياة الإنسان وعلاقته به وإدراكه لحاجته له.
واستخلص سيادته، أن هذه النقاط الثلاث تجعل الإنسان يدرك بشكل صحيح من هو وأين يوجد، مُضيفاً أن الحوار ما زال يتناول المبتدئين، الذين لم يصلوا إلى هذا المستوى من معرفة الذات في هذه الأمور ، وعلى الانسان أن يتأمل في هذه الأمور في نفسه عبر فحص نفسه بالكلمة الإلهيّة، لأنها تكشف لنا كل هذه الأشياء، فإذا فحصنا أنفسنا بِإزاء شخص الربّ يسوع، الإله الإنسان، الذي يقودنا إلى معرفة أنفسنا وبالتالي إلى التوبة كما يقول الربّ يسوع: “تعلّموا مِنّي فإني وديعٌ ومتواضع القلب”، مُبيّناً أوجه التقارب والإختلاف بين الوديع والمُتواضع من حيث انطباق صفة الهادىء الذي لا يضطرب في كافة الظروف، والثاني الذي يتقبَّل قول الآخرين مع حفاظه على محبته لهم وامتداده نحوهم، وهو يعرف هبة الله لكنه ينظر إلى نفسه بإزاء الله، ويرى نفسه وكأنّه في بِداية الطريق، وفي الوقت عينه يدرك عطيّة الله له، وأنها هبة من الله المُعطي، وليس له فضل بكل الأحوال.
علينا جميعًا مقارنة أنفسنا في هذه الأمور، لكي نعرف أين نحن من حقيقتنا التي تقتضي أن نتمثّل بِالسيّد المسيح، مع العمل للوصول إلى مرحلة نُصبِح فيها مُدركين لِمشاكلنا، ضُعفاتنا، أمراضنا، عبر مسيرة الجهاد الروحي والتوبة،
الأمر الذي يولِّد في الإنسان ألم يسمى نخس القلب الذي يُفجّر فينا طاقة تُغيِّرنا نحو الأفضل ويُولّد فينا رفض الخطيئة الذي يجعلنا ننشد التغيير والإمتداد نحو الله طلباً لِلمعونة وصولاً الى التوجه نحو الربّ للحصول على النعمة عبر الكنيسة، سر التوبة والإعتراف،
ختم سيادته مؤكداً أنّه اذا لم يكره الإنسان الخطيئة، لا يستطيع التخلي عنها، طالما لديه شوقٌ لها ستبقى قابعة في داخله مُستعبدةً له.