يوجز القدّيس إيريناوس أسقف ليون (+202)، ومن بعده التراث المسيحيّ كلّه، رسالة السيّد المسيح بالعبارة الآتية: “إنّ المسيح، لأجل محبّته اللامتناهية، قد صار مثلنا لكي يجعلنا مثله”، أو بعبارة أخرى: “صار الإله إنسانًا ليصير الإنسان إلهًا”، أو كما قال القدّيس أثناسيوس الكبير (+373): “كلمة الله صار إنسانًا ليؤلّه الإنسان”. أمّا القدّيس باسيليوس الكبير (+379) فيقول: “كمال المشتهى أن يصير الإنسان إلهًا”. كيف يصير الإنسان إلهًا؟ يجيب القدّيس مكسيموس المعترف الجولانيّ (+662) على هذا السؤال بقوله: “كلّ ما يملكه الله، ما عدا جوهره، يصيره مَن يتألّه بالنعمة”. أمّا القدّيس يوحنّا الدمشقيّ (+750) فيؤكّد قائلاً: “بالنعمة يصير الإنسان ما هو المسيح بالطبيعة”.
يسعنا الحديث، هنا، عن حركتين: الإله يتنازل ليصبح إنسانًا، والإنسان يرتقي ليصبح إلهًا. الحركة الأولى التنازليّة هي التي تجعل الحركة الثانية الارتقائيّة قابلة للتحقّق، إذا صاحبتها حرّيّة الإنسان وإرادته بالارتقاء. الإله الذي تنازل وصار إنسانًا ليس سوى يسوع المسيح الذي جدّد الطبيعة الإنسانيّة. وفي ذلك يقول مكسيموس المعترف: “الإنسانيّة الجديدة هي إنسانيّة يسوع الكلمة المتجسّد التي تحتوي على الإنسان الجديد”.
الإنسانيّة الجديدة تضمّ كلّ إنسان راغب في هذا الارتقاء، لا فرق ما بين ذكر وأنثى، أو ما بين أبيض وأسود، أو ما بين يونانيّ وبربريّ… وبما أنّ كلّ هؤلاء مدعوّون من دون استثناء إلى التألّه، فليس ثمّة تفضيل لأحدهم على الآخر. في اللاهوت المسيحيّ، إذًا، لا فرق جوهريًّا ما بين إنسان وآخر.
النعمة الإلهيّة تتنزّل على الجميع، كلّ وفق موهبته ووظيفته في الجماعة المؤمنة. والنعمة الإلهيّة هي نفسها التي تعمل في الجميع، فلا يمكن النعمة أن تتجزأ أو تتبعض، هي تعطى كاملة من لدن الكامل. لذلك لا فرق أيضًا ما بين إنسان وآخر بمقدار النعمة الحالّة عليه.
لا يمكن، إذًا، التذرّع لاهوتيًّا بذكورة يسوع أو برجولته لتبرير التمييز الوظائفيّ في الجسد الواحد ما بين الرجل والمرأة. جوهريًّا يستحيل هذا التمييز. تدبيريًا أو اجتماعيًّا أو بيولوجيًّا دعِ اللاهوت جانبًا وبرّرْ ما تريد تبريره. ليس ثمّة كلام لاهوتيّ عن ذكورة يسوع، ولا عن انتمائه القوميّ أو الوطنيّ، ولا عن أزليّة لغته وأفضليّتها على لغات العالم. فهل إذا وُلد المسيح خارج فلسطين، ولم يتكلّم الآراميّة، ولم يكن من أمّ يهوديّة، هل كان هذا ليغيّر شيئًا جوهريًّا في رسالته؟ كان لا بدّ له، لكي يتجسّد إنسانًا، أن يولد من أمّ، وأن ينتمي إلى قوم، وأن يحيا في وطن، وأن يتكلّم لغة، وأن يتّخذ جنسًا لدى ولادته. فكان يسوع الناصريّ كما عرفناه.
الحركة الموازية المطلوبة من الإنسان هي السعي إلى الألوهة عبر الحياة وفق تعاليم الربّ وإنجيله. ولنا في مريم أفضل نموذج للإنسان، ذكرًا كان أم أنثى، الإنسان الذي أكمل السعي وحفظ الإيمان وبلغ إلى الخلاص. لذلك، ليست مريم نموذج للأنثى وحسب، وإنّه لمن الخطأ أسرها في أنوثتها، هي قدوة للمؤمنين جميعًا إذا اقتدوا بها “كما هي اقتدت بالربّ” يصلون إلى حيث هي وصلت.
الفرق ما بين الرجل والمرأة ليس فرقًا جوهريًّا على الصعيد الإنسانيّ، الفرق ما بينهما يعود إلى ترابيّتهما وإلى ما سيفسد يومًا، والفاسد لا يرث ملكوت الله. وظيفة الرجل على الصعيد الاجتماعيّ والبيولوجيّ تختلف عن وظيفة المرأة. لكنّ هذا لا يعني بالضرورة أنّ له تأثيرًا على الوظيفة ضمن الجماعة الكنسيّة، فالكنيسة ليست ترابيّة بل هي هيكل الروح القدس، هي جسد المسيح، هي الملكوت الآتي الحاصل “هنا والآن”.
من الخطأ، إذًا، الاعتماد لاهوتيًّا على ذكورة يسوع وأنوثة مريم لدعم التمييز الوظائفيّ في جسد الكنيسة. مَن شاء أن يبعد المرأة عن بعض الوظائف الكنسيّة له أن يقول ما يشاء، لكنّه لن يجد في اللاهوت ما يدعم رأيه.
المسيح الإله صار إنسانًا. الإنسان مدعوّ إلى أن يصير إلهًا. مريم النموذج القدوة الحسنة للمؤمنين وللمؤمنات جميعًا. كلّ نفس مدعوّة إلى أن تصير مريم.
الأب جورج مسّوح
“النهار”،25 آذار 2017