الخميس 23 آذار \2017
“الســلم الــى اللـــه” للقديس يوحنا السلمي
ندى زخريّا عازار
نبذة عن سيرة القديس يوحنا السلمي:
هو يوحنا السينائي نسبة الى سيناء وسمي السلمي لأنه الّف كتاب “سلّم الى الله”. ولد القديس يوحنا السلّمي في فلسطين حوالي سنة 525 م. حداثته مجهولة سوى ان لقب “العلامة” الذي لقب به وهو على قيد الحياة يفترض تحصيلاً ثقافياً واسعاً، وجل ما يعرف عنه يقتبس من كتاباته. في السادسة عشرة من عمره تتلمذ لراهب قديس من شيوخ دير جبل سيناء، اي دير القديسة كاترين، يدعى مرتيريوس حيث سلم اليه قيادة امره، ولم تمض عليه سنوات قليلة حتى كان قد بلغ الى درجة سامية من الفضيلة لما اتصف به من الطاعة لمرشده.
وفي سن العشرين وبعد ان تمرس في هذه السيرة كان ابوه الشيخ الروحي الذي دربه قد ترك الحياة، فأسف لفراقه الدير وانفرد في برية قاحلة تبعد عن الدير حوالي ثمانية كيلومترات تدعى “الثولا” في الصحراء متوحداً. قضى اربعين سنة في خلوته مجاهداً جهاد التوبة والصلاة ومختبراً فنون الحرب اللامنظورة وحلاوة مناجاة الله. وكان في خلوته يستقبل من يأتونه للاسترشاد من رهبان وعلمانيين، ويزور المرضى المتوحدين متفقداً كما نعرف من كتابه. ثم انتخب رئيساً لدير جبل سيناء، ولا يعرف بالضبط مقدار الزمن الذي تولى فيه القديس يوحنا رئاسة دير جبل سيناء ولكنه استقال من الرئاسة ليعود الى خلوته قبل وفاته. عاش حوالي خمس وسبعين سنة وتوفي سنة 600 او قبلها بقليل.
تعيد له الكنيسة في 30 آذار وفي الاحد الرابع من الصوم الكبير.
طلب اليه رئيس دير رايثو ان يكتب ارشادات للرهبان، فوضع كتاباً اسمه “السلم” سمي فيما بعد “سلم السماء” او “درجات الفضائل” او “السلم الى الله” او “السلم المقدسة”.
تسمية السلم مستوحاة من رؤيا يعقوب (تكوين 28: 12-13)، يعد كتاب “السلم الى الله “ً كتاباً فريداً من نوعه نظراً لشخصية مؤلفه القوية وسعة معرفته وعمق خبرته الروحية وطريقته في البحث متصفاً ومتميزاً بالانسجام والغنى معاً. الكتاب نافع لكل مسيحي يبتغي طريق الكمال، ضمّنه القديس يوحنا السلمي خبرته، فقد شاهد وسمع في حياته اموراً كثيرة، يرويها ويقيمها تقييماً شخصياً غير آبه بمخالفته الآراء السائدة.
رتب القديس يوحنا في كتابه ثلاثين درجة اشارة الى سني يسوع الثلاثين قبل عماده المقدس وترمز السلم بصورة عامة الى مسيرة رتب المؤلف درجاته بعناية فائقة، وفقاً لخطة دقيقة، يرتقيها طالب الكمال، محتضناً الحياة الروحية بأكملها بين يديه، مجاهداً من الزهد الى الاتحاد بالله مروراً بمحاربة الاهواء واكتساب الفضائل: الصبر والوداعة والتواضع.
يمكن تقسيم الكتاب الى ثلاثة اقسام رئيسية غير متساوية:
1- الانفصال عن العالم ويتجلى في:
1- الزهد 2- التخلي 3- الغربة
2- ممارسة الفضائل وتتجلى في:
أ: الفضائل الاساسية وهي:
4- الطاعة 5- التوبة 6- تذكر الموت 7- النوح
ب: الصراع ضد الانفعالات النفسية:
8- الغضب 9- الحقد 10- الوقيعة / الاغتياب 11- اكثار الكلام 12- الكذب 13- الضجر 14- الشره 15- الطهارة 16- حب المال 17- الزهد في المقتنيات 18- عدم الحس 19- النوم والصلاة 20- سهر الجسد حتى سهر الروح 21- الجبن 22-23- العجب والكبرياء
ت: فضائل عليا في الحياة العملية:
24- البساطة 25- التواضع 26- الافراز/التمييز
3- اتحاد مع الله (انتقال لحياة التأمل):
27- الهدوء المقدس 28- الصلاة 29- التجرد/اللاهوى 30- المحبة
الا ان القديس يوحنا يحذر من الاسراف في التعجل لإحراز الفضائل اذ “لن نستطيع ارتقاء السلم بخطوة واحدة”.
الى من يتوجه يوحنا السلمي في كتابه “السلم الى الله”؟
لقد دون يوحنا السلمي هذا الكتاب بعد ان قضى معظم حياته الرهبانية كأحد النساك، وعند تقدمه في السن اختاره الرب للقيام بإدارة دير كبير ورعاية رهبانه. وهكذا كانت الكتابة موجهة من ناسك مختبر الى رهبان يعيشون في الدير، والى كل متعطش لسماع كلمة الرب. فنعمة الخلاص ممنوحة لجميع البشر على السواء. نراه يقول في هذا الصدد: “ان الله هو حياة كل الكائنات الحرة، وهو خلاص المؤمنين وغير المؤمنين، المستحقين وغير المستحقين، الرهبان واولئك الذين يعيشون في العالم، المتعلمين والاميين، الاصحاء والمرضى، الشباب والشيب، فالله كالنور المنبعث من الشمس، يضيء الابرار والاشرار”، “لأنه ليس عند الله محاباة”. فبرأي القديس يوحنا السلمي ان زواج المسيحي لا يقف عقبة في سبيل خلاصه، فالطهارة ليست احتكاراً للذين لم يتزوجوا قط. والدليل على ذلك يستشهد بالرسول بطرس “الذي كان متزوجاً وله حماة” وعلى الرغم من ذلك “تسلم مفاتيح الملكوت من يد الرب”.
فالمسيحي، اي مسيحي، هو من يتشبه بالمسيح بقدر ما يستطاع ذلك للبشر. وكل احد يستطيع ان يكون في سلام مع الله وصفاء اللاهوى الاخير. لكن السيرة الرهبانية تتيح ذلك اكثر، فتوفر الوسائط للتشبه بالمسيح ولتحقيق الفضائل، والنسك الرهباني يؤول بالنتيجة الى كمال اسمى علماً بأن الكمال يقاس بحسب نقاوة حبنا لله وتشبهنا بمحبته، لا بحسب كمية افعال المحبة وانتشار خبرها.
تعاليم مار يوحنا السلمي:
الاختبار الشخصي
ينبه مار يوحنا السلمي الى ضرورة الاختبار الشخصي ومدى الحاجة اليه. فالمسيحية في رأيه اعظم من ان تقتصر على مجرد القبول الشكلي لمجموعة من القواعد والقوانين، فما من احد يستطيع ان يكون مسيحيا حقيقياً جديراً بالاسم الذي يحمله، ما لم ينعم بمقابلة شخصية مع الرب، يتعرف فيها اليه، ويراه ويلمسه بنفسه، ويقول ان اي انسان ينبري لتعليم الاخرين وارشادهم يلزم ان يكون اول من يتحقق معه ذلك. فالمعلم الحقيقي هو من يتلقى من السماء، يستقي دائماً من ينبوع حكمة الله الحي. اذ لا يكفي لكمال المرء انه يقرأ او انه يسمع اختبارات الاخرين، فيقدم القديس يوحنا السلمي حلاوة الشهد مثالاً فيقول: “هل تتخيل ان اية كلمة مهما كانت سلسة بسيطة تستطيع ان تصف محبة الله. هل تتخيل ان اي حديث عن مثل هذه الامور سيكون له اي معنى لانسان لم يختبر الامر بنفسه؟ لو انك ظننت هذا يكون مثلك مثل انسان يحاول عن طريق الكلمات والارشادات والتشبيهات ان ينقل مذاق حلاوة الشهد لمن لم يتذوقه ابداً… واضح ان اي وصف او تشبيه او كلام بهذا الصدد سيكون عبثاً وبلا جدوى”.
بسبب اقتناعه بضرورة المواجهة والمشاركة والتلامس المباشرين كان هدفه في كتابه الا يلقي تعليماً مجرداً او يفرض نظاماً شكلياً لقواعد نسكية، بل ان يثير في قلوب قارئيه التلهف للحصول على خبرة شخصية شبيهة بخبرته الخاصة. نراه يقدم طريقاً للحياة ولا يقدم تعليمات واوامر بل ممراً الى المشاركة الروحية. لهذا نرى اهتمامه موجهاً الى الباطن لا الى الظاهر، الى تواضع القلب وطهارته لا الى شكليات النسك البدني، كان يقول بهذا الصدد: “لقد وردت بالاسفار المقدسة الكثير من الآيات مثل: انا تذللت والرب خلصني (مز 6:116)، ولم ترد كلمات مثل: “لقد صمت…، او لقد سهرت او لقد افترشت اديم الارض العارية…”. فالسلمي كان يرجح اخلاص القلب على صرامة اتعاب الجسد، وذلك احياناً خلافاً للتقليد الاكثر وقاراً “كتيرون يضنون اجسادهم باطلاً في سبيل اكتساب اللاهوى الاقصى والمواهب السامية … وقد خفي عنهم ان ام هذه النعم وامثالها ليست اتعاب الجسد بل التواضع”.
المسيح القدوة الالهية:
يشرح القديس يوحنا السلمي رأيه في ايجاز عن جوهر الحياة الروحية فيقول “ان المسيحي الحق هو من يحذو حذو المسيح، في الفكر والقول والعمل، على قدر استطاعة طبيعته البشرية، مع ايمانه الصادق النقي بلاهوته الاقدس” التي خطها عند اول درجة من درجات مؤلفه، كما عبر عن نفس الرأي في آخر درجات السلم بقوله “ان المحبة بطبيعتها هي محاولة من الانسان لكي يكون مشابهاً لله، بالقدر الذي تستطيعه بشريته”، بمعنى ان نتبع المسيح لنكون “مثل الله” فنتخذه قدوة لنا، فنحذو حذوه ونسعى جاهدين كي نشبهه في حبه الالهي. اذ يرى السلمي الكائن البشري في علاقته الدائمة مع الله. فالانسان لا يصبح فاضلاً الا بمشاركته في فضائل الله والتحصن بقوته ونعمته.
ويفرق السلمي في كتابه بين الانزعاج بالروح والرعب من الموت. فهو يقول في هذا الصدد انه من الطبيعي للانسان، وهو يجتاز خلال التجارب في هذا العالم، ان ينزعج من الموت، واذا كان غير تائب مغفور الخطايا ان يرتعب منه، فالرعب من الموت يحدث من الشعور بالإثم، عدم الغفران، ولذلك فرب المجد السيد المسيح قد انزعج من الموت كإنسان، لكنه لم يرتعب منه، لأن المسيح خال من اي اثم او خطية، فالخاطىء الاثيم غير التائب والغير مغفور الخطايا هو وحده الذي لا بد ان يرتعب من الموت، توقعاً للمصير الرهيب الذي لا مناص من ان يلاقيه.
يركز يوحنا السلمي على اهمية العمل اليشري. فالله لا يخلصنا ضد ارادتنا لذلك على الانسان ان يسعى لنيل الخلاص ولكن بالنعمة الالهية. اذ يعجز الانسان الكامل عن احراز حياة البر بدون النعمة الالهية. يقول السلمي “ينبغي الا ينسب الانسان لنفسه اي فضل عن اية انجازات في الفضائل والحياة الروحية، فأي انسان تدرب مثلاً على طريق العفة، وقهر طبيعته الحيوانية عليه ان يؤمن ويعترف بأن الفضل كله عائد الى المسيح الرب، الذي يعلو الطبيعة ويخضعها لسلطانه…”، “فعليك كانسان ان تعترف انك عاجز ببشريتك، قادر بنعمة الهك”.
يعرض القديس يوحنا السلمي بأن الانسان الساقط لديه فرصة للنهوض. فالسقوط هو حالة طارئة على الطبيعة البشرية.
فالطبيعة البشرية بأكملها من صنع الله، وهي لذلك تتميز بالحسن والكمال، لأن “الله لم يخلق الشر او يتسبب في وجوده، فالخطية دخيلة على كياننا وما من احد يرغب في ان يخطىء ضد الله”. فالفضائل الطبيعية موجودة وكثيرة اما الرذائل فكلها دخيلة وليست طبيعية. يقول السلمي “ان الشر او الانفعال النفسي ليس شيئاً طبيعياً مغروساً فينا، فالله غير خالق للانفعالات النفسية، ومن ناحية اخرى فثمة فضائل طبيعية كثيرة اتت الينا عن طريق المبارك. وهذه الفضائل تشمل اعلاها واسماها وهي الايمان والرجاء والمحبة”. فإن لاهوت السلمي يرى ان الثنائية في الكائن البشري تقوم على “ثنائية بين غير الساقطين والساقطين، بين الطبيعي وغير الطبيعي، بين الخلود والفساد، بين الحياة والموت”.
ففي رأي السلمي، الراهب “هو نفس يؤلمها التذكار الدائم للموت”، ولكن الدوافع لتخليه عن حفه في الحياة العادية لا تقتصر على الحزن بسبب الخطايا والخوف من القصاص، ولكنها تشمل ايضاً محبة الله والاشتياق الى ملكوته الآتي، واذا كان “الدير قبراً قبل القبر” فهو ايضاً “سماء على الارض”… فالغربة عن العالم تضحية مؤلمة للراهب – حرمان من الوالدين والاصدقاء والبيئة التي اعتاد عليها – لكن الدافع المسيطر واقع خلاق من شأنه ان يحرر الراهب ليصبح خالصاً لله، فالغربة هي “انفصال عن كل شيء كي يتمسك المرء بكليته بخالقه وفاديه”.
اذا كانت الطاعة هي “تجرد تام عن حياتنا، وان نقبل الموت بكامل حريتنا”، فإنها ايضاً “قيامة من بين الاموات”، علينا دائما ان نتذكر ونتوقع ساعة الموت، معتبرين كل يوم كأنه آخر يوم في حياتنا على الارض، وفي نفس الوقت ينبغي ان ننتظر، بترحيب باعتباره هو الطريق الى الحياة او بالاحرى هو الحياة.
من هنا تبرز التوبة كـ”نعيم القيامة من الاموات”. فالتوبة ليست موت من العالم على الصليب، بل هي قيامة من الاموات مع المسيح، وهي ليست يأس بل رجاء. يقول السلمي “ان التوبة ابنة الرجاء ورفض اليأس، فالتائب يحزنه ذنبه، ولكنه يريد تحرره منه، ولذلك لا يكون مكللاً بالعار رغم خطيئته، ذلك لأن التوبة في جوهرها تصالح مع الرب، وليس الدافع اليها هو مخافة الله فقط، بل وايضاً الاستجابة لحبه الفائق العظيم، ولذلك فالحزن الذي يعتري التائب ويصاحب التوبة، انما هو “الحزن الذي تنبعث منه محبة الله”.
الا ان السلمي يقول ان الله قد خلقنا للفرح والهناء، لا الدموع والأسى والشقاء. يقول السلمي: “ان الله لا يطالب اي انسان او يريد منه ان يبكي بدافع من حزن القلب…، بل بدافع من الحب لله… حرر نفسك من الخطيئة وعندئذ ستجد الدموع الحزينة التي تنهمر من عينيك، قد تحولت الى لآلىء ثمينة تشع منها اضواء بهجة الخلاص”.
فالدموع تعكس الحالة التي كان عليها الانسان في سقوطه، وتعبر عن حزنه لارتكابه الخطيئة. الا انها تتحول الى دموع فرح منبعثة من الايمان برحمة الله وحبه العجيب. يلخص السلمي هذه النقطة بعبارة “الحزن المفعم بالفرح”. فالدموع اما تكون نابعة من تأنيب الضمير وهي عطية من الرب غير ممنوحة لجميع الناس، وانما فقط للمختارين بحكمته الالهية السامية، من هنا يسميها السلمي بـ”عطية الدموع” او تكون دموع المعمودية. فالدموع هذه هي تجديد لسر المعمودية، يقول السلمي “ان الدموع التي تنهمر بعد العماد، اعظم من العماد نفسه. فالعماد يمحو الشرور التي كانت في اعماقنا من قبل، اما الخطايا التي نرتكبها بعد العماد فلا تغسلها الا الدموع. بدموعنا نطهر انفسنا من الخطايا المستحدثة.
هنا تتجلى الطبيعة الايجابية للدموع التي هي ميلاد ثان وقيامة من الاموات، فالحزن المفعم بالفرح هو تعبير عن مصالحتنا مع الله.
الحب والخلو من الاهواء
يرى القديس يوحنا السلمي ان الخلو من الاهواء لا يعني الجمود العاطفي، بل على العكس هو توجيه هذه القوة بدافع “الحب الالهي”. حين يتكلم السلمي عن الحب الجسدي والحب الالهي كضدين، لا ينفي ان الارضي هو صورة من السماوي. نراه يقول في هذا الصدد: “ان الحب الطبيعي غير المنحرف يمكن ان يكون مثالاً مشتقاً من النزوع والاشتياق الى الله”…”ما اسعد الانسان الذي يحب الله ويشتاق اليه مثل المحب المتيم نحو محبوبه”. نستنتج من ذلك ان الامر يتعلق لا بالكبت بل بالعودة للتوجيه السليم. فبقهرنا من الانفعالات الجسدية (التي في اصلها بعيدة عن الطبيعة الانسانية) نصبح احراراً قادرين على ان نعود الى ذواتنا الحقيقية، احراراً لنحب الآخرين، احراراً لنحب الله.
فالخلو من الاهواء او الانفعالات النفسية ليس اماتة لهذه الانفعالات بل استبدالها بطاقة ايجابية افضل. يقول فيها السلمي على انها “بعث للروح قبل الجسد”. اذن فالخلو من الاهواء لا يعني “اللامبالاة” او “الفتور العاطفي” ولكنه حب ملتهب، كما انه لا يعني “الفراغ” بل “ملء الحلول الالهي” اذ يقول “ان احراز الخلو من الاهواء، هو احراز لملء الحب، وهو احراز لنعمة التبني، بمعنى حلول الله التام في الاعماق”.
فمعنى ان يكون المرء خالياً من الاهواء هو ان ينتسب الى الله، وبالتالي يمتلك الحصانة او المناعة ضد هذه الاهواء وبالتالي رفضها وعدم تقبلها والعودة الى ما يماثل حالة آدم قبل طرده من الفردوس واسترداد “الجمال الذي لا يفنى ولا يزبل”، الذي كان حائزاً عليه قبل السقوط. فالانسان في الفردوس لم يكن روحاً بغير جسد، بل وحدة متكاملة من الجسد والروح معاً، وهكذا فان الخلو من الاهواء، مثل العودة الى الفردوس، يقتضي اندماج الجسد والروح وليس التنصل من الجسد.
فالجسد هو صديق باعتباره خليقة الله، الا انه فسُدَ بسبب الخطيئة وبالتالي سقط، لكن هذا الجسد مدعو للمشاركة في امجاد القيامة. صحيح اننا نسمع السلمي يقول في الجسد “عامل جسدك دائماً كعدو، فالجسد صديق غادر، ناكر للجميل، وكلما ازدادات عنايتك به، ازدادت اساءته اليك”، الا انه في اماكن اخرى يتحدث عن الجسد لا كعدو يصعب ترويضه وعلاجه، لكنه بما انه خليقة الله فهو شريك وصديق :”انه صديقي وعدوي، حليفي وخصمي… اعانقه وانفر منه… فما هي قاعدة هذا الخليط في الجسد والنفس! وكيف استطيع ان اكون صديقاً لنفسي وعدواً في آن واحد”. عند قراءتنا لهذا النص نرى ان ثمة حلقة متصلة تربط الروح بالجسد “انا مرتبط بالجسد الى الابد فهو سينهض معي ولن يفارقني”. فالجسد ليس رداءاً نرتديه الى حين ثم نخلعه ونقذف به جانباً، ولكنه شطر متمم لا غنى عنه للنفس البشرية الحقيقية. فالاسفار المقدسة تعلمنا ليس بخلود الروح فحسب بل وايضاً بالبعث والقيامة بالجسد من بين الاموات، على الرغم من انفصال الجسد عند الموت عن الروح بسبب السقوط، فهذا الانفصال ليس سوى حدثاً مؤقتاً.
من هنا نجد ان مهمة الجسد ورسالته معاً ان يتقدس ويشترك مع الروح في الحياة. يقول الوحي الالهي “جسدكم هو هيكل الروح القدس… فمجدوا الله في اجسادكم” (1 كو 6: 19-50)، فيقول السلمي بهذا الصدد “اننا نسعى لأن نصعد الى السماء بالجسد، فلزام على كل انسان ان يجاهد ليرفع جسده – الاناء الخزفي – الى مكان عند اقدام رب المجد، فتقديس اي انسان لا يمكن ان يتم الا بعد +تطهير جسده وتقديسه”…
من هنا فالانفعالات النفسية هي نتيجة السقوط وبالتالي فهي ليست اصيلة في الطبيعة البشرية، بل هي مجرد اعوجاج من القوى الدافعة، المغروسة في الجسد اي “الغرائز”. لذلك ينبغي علينا ان نقوّم ما اعوج منها بسبب السقوط. يوضح السلمي وجهة نظره هذه بقوله “لقد تسلمنا سجايا طبيعية خاصة بنا، وحولناها الى انفعالات نفسية بغيضة، فعلى سبيل المثال تلك البذرة المباركة التي وضعت في اجسادنا بقصد انجاب الاطفال، اذرينا بجمالها وجلالها، واسأنا استخدامها، اذ جعلناها وسيلة شريرة للزنى…، اما رغبتنا الطبيعية لتغذية الجسد بتناول الطعام، فقد اسرفنا فيها وحولناها الى رذيلة النهم والجشع!”.
دور الراعي والطاعة للاب الروحي:
يشرح يوحنا السلمي ضرورة طاعة راهب الدير للاب الروحي كمثال ارضي للمسيح الراعي الصالح. فمار يوحنا يؤكد على اهمية الاب الروحي اذ لا يمكن صعود السلم اذا عاش الراهب في عزلة لكن عليه ان يلتزم بتوجيه دائم مباشر من مرشد روحي شيخاً معتبراً مشهوداً له بالتقوى والحكمة. فالاب الروحي هو “معالج” والاعتراف هو نوع من “العلاج”. اذ ان الخطيئة مرض والاعتراف للاب الروحي يمنح الشفاء للمعترف. فالاعتراف هو دخول الى المستشفى وكشف عن جروحنا، والاب الروحي هو الطبيب الذي يجعلنا اصحاء في باطن اعماقنا. من هنا كانت اوجب ضرورة الثقة المتبادلة التامة بين المعترف والاب الروحي. من هنا وجب التدقيق في اختيار الاب الروحي.
اقوال القديس يوحنا السلمي
الدرجة الاولى- في الزهد: على الذين يتقدمون الى هذه السيرة ان يجحدوا كل شيء ويستهينوا بكل شيء ويهزأوا بكل شيء ويطرحوا عنهم كل شيء لكيما يضعوا اساساً صالحاً.
الدرجة الثانية- في التخلي عن كل شيء: لن يدخل احد الخدر السماوي مكللاً ما لم يزهد الزهد الاول والثاني والثالث، اعني التخلي اولاً عن كل شيء وعن جميع الناس وعن الوالدين ثم قطع المشيئة الذاتية وأخيراً طرح الغرور الناجم عن الطاعة.
الدرجة الثالثة- في الغربة: يا من تغرب عن العالم لا تعد تدنو اليه، لأن الأهواء من طبعها تطلب العودة.
الدرجة الرابعة- في الطاعة: طريق الطاعة هو اقصر المسالك وان يكن اكثرها صعوبة.
الدرجة الخامسة- في التوبة: كما ان النار والماء متنافران هكذا ادانة الآخرين لا تتفق مع من يريد التوبة.
الدرجة السادسة- في الدموع: الدموع اثمن من ماء المعمودية لأنها انما تأتي بوعي كامل وتجدد النفس.
الدرجة السابعة- في النوح: من يقضي ايامه في نوح دائم مرضي لله لن يكف عن التعبيد كل يوم، ومن يكف عن التعبيد جسدانياً فهو مزمع ان ينوح نوحاً ابدياً.
الدرجة الثامنة- في الوداعة: الوداعة هي سكون النفس وتقبلها للاهانات والكرامات بحال واحد على السواء.
الدرجة التاسعة- في الحقد: ثمرة الغضب وادخار للخطايا ومقت للبر واضمحلال للفضائل وسم للنفس ودودة للعقل وخزي للصلاة وقطع للتضرع واغتراب عن المحبة.
الدرجة العاشرة- في الوقيعة: ان ادانة الآخرين اختلاس وقح لمقام الله، والحكم عليهم هلاك للنفس.
الدرجة الحادية عشر- في الثرثرة: من عرف زلاته ضبط لسانه اما كثير الكلام فلا يعرف ذاته بعد كما يجب.
الدرجة الثانية عشر- في الكذب: الكذب يطفىء المحبة، واليمين الكاذبة انكار لله.
الدرجة الثالثة عشر- في الضجر: النفس الشجاعة تحيي العقل المحتضر اما الضجر والفتور فيبددان كنزَنا كله.
الدرجة الرابعة عشر- في الشره: ان عقل الصوام يصلي بأفكار طاهرة، اما عقل الشره فيمتلىء صوراً نجسة.
الدرجة الخامسة عشر- في الطهارة والعفة: الطاهر هو من دفع عشقاً بعشق واطفأ نار الارض بنار السماء.
الدرجة السادسة عشر- في حب المال: حب المال سجود للأوثان، وثمر لعدم الايمان…ويوحي بورود القحط وينبىء بالمجاعات.
الدرجة السابعة عشر- في الزهد في المقتنيات: الزاهد في المقتنيات نقي الصلاة، والمتعلق بها يصلي الى صور مادية.
الدرجة الثامنة عشر- في عدم الحس (موت الروح والنفس قبل موت الجسد): العادم الحس هو فاقد الحكمة…محدّث يناقض ذاته، اعمى يعلّم النظر… متفلسف في ذكر الموت ويتصرف كأنه غير مائت…يتكلم عن الامساك ويتهافت على الطعام.
الدرجة التاسعة عشر- في النوم والصلاة والترتيل مع الاخوة: انقطاع العين الساهرة تطهّر العقل، وكثرة النوم تعمي النفس.
الدرجة العشرون- في سهر الجسد: الراهب الساهر صياد للافكار يرصدها في سكون الليل ويضبطها بأيسر مرام.
الدرجة الواحدة وعشرون- في الجبن: الخوف هو الاغتمام مقدماً لخطر وهمي، او هو ارتعاد يجلب قلق لمصائب مبهمة غير محددة.
الدرجة الثانية وعشرون- في العجب: المعجب بنفسه هو مؤمن عابداً للاصنام، اذ انه يجل الله في الظاهر وهو يريد ان يرضي الناس لا الله.
الدرجة الثالثة وعشرون- في الكبرياء: الظلام غريب عن النور والمتكبر غريب عن الفضيلة.
الدرجة الرابعة وعشرون- في الوداعة: في قلوب الودعاء يستقر الرب ويستريح، اما النفس المضطربة فمقر لابليس.
الدرجة الخامسة وعشرون- في التواضع: اذا كان الشيطان سقط من السماء بالعظمة وحدها، فالاتضاع وحده يرفع الانسان الى السماء.
الدرجة السادسة وعشرون- في التمييز: الافراز هو نور في الظلمة، وهو رجوع الانحراف الى الطريق، واشراق النور في الذين اظلم نورهم.
الدرجة السابعة وعشرون- في الهدوء المقدس: ان قلاية الهادىء سور لجسده تحوي داخلها بيتاً للمعرفة.
الدرجة الثامنة وعشرون- في الصلاة:كل من يتوكأ على عكاز الصلاة لا تزل قدماه. وحتى اذا زلت فهو لن يقع تماماً لأن الصلاة سند السائر في طريق التقوى.
الدرجة التاسعة وعشرون- في اللاهوى: تبلغ النفس الى اللاهوى عندما تترسخ في الفضائل ترسخ الفاسقين في اللذات.
الدرجة الثلاثون- في المحبة: لا تلتصق الام برضيعها مثلما يلتصق ابن المحبة بالله.
طروبارية
للبرّيّة غير المثمرة بمجاري دموعك أمرعتَ، وبالتنهدات التي من الاعماق أثمرتَ باتعابك الى مئة ضعف، فصرت كوكباً للمسكونة متلألئاً بالعجائب، يا ابانا البار يوحنا، فتشفع الى المسيح الاله ان يخلص نفوسنا.
قنداق
من كتاب تعاليمك الحاملةِ أثماراً دائمة نضارتها ايها الحكيم، تُلذذ قلوب المصغين اليها بتيقظ ايها المغبوط لأنها سلم مصعدة من الارض الى المجد السماوي الثابت نفوس المكرمين اياك بإيمان