الأصالة في مواجهة السلفيّة المسيحيّة – الأب جورج مسّوح
الأرثوذكسيّة، كنيسةً، يتأسّس إيمانها على الكتاب المقدّس وإيمان الرسل والآباء والمجامع المسكونيّة. أمّا القياس الذي تعتمده الكنيسة من أجل تحديد صحّة الإيمان الأرثوذكسيّ أو عدمه، إنّما هو العقائد التي أقرّتها المجامع المسكونيّة السبعة (آخرها السابع الذي عُقد عام 787 في القسطنطينيّة)، ولا سيّما دستور الإيمان. يضاف إلى ذلك ما أجمعت عليه الكنيسة كلّها من تعاليم آبائيّة أو مجمعيّة محلّيّة، كإجماع الكنيسة الأرثوذكسيّة على تبنّي تعليم القدّيس غريغوريوس بالاماس (+1359) عن “النعمة غير المخلوقة”، و”النور الإلهيّ غير المخلوق” الذي ينسكب على الإنسان ليجعله أهلاً أن يصير إلهًا بالنعمة، لا بالجوهر.
يمكننا أن نهتدي بقول القدّيس بولس الرسول في رسالته الثانية إلى تلميذه تيموثاوس: “تمسّك بصورة الكلام الصحيح الذي سمعتَه منّي في الإيمان والمحبّة التي في المسيح يسوع. إحفظ الوديعة الصالحة بالروح القدس الحالّ فينا” (1، 13-14)، لنقول إنّ الوديعة الصالحة للخلاص، وفق الأرثوذكسيّة، هي التعاليم الأساسيّة التي أقرّتها الكنيسة الجامعة منذ نشأتها إلى انقضاء الدهر.
الكنيسة الأرثوذكسيّة تؤمن بعمل الروح القدس عبر التاريخ كلّه، ولا تقبل البتّة بإقفال باب الاجتهاد في المسائل غير العقائديّة، وتقبل بالاختلاف في بعض التعاليم التي لم يتمّ الإجماع عليها. ولدينا مثل ساطع في مسألة اختلاف الآباء، ومنهم آباء من كواكب الكنيسة، في شأن القول بالخلاص الكلّيّ أو في عدمه. ما يعنينا في هذا الأمر هو أن لا أحد من الطرفين كفّر الآخر بسبب هذا الخلاف، لأنّهم استطاعوا التمييز ما بين الجوهريّ وغير الجوهريّ في التعليم الكنسيّ.
لذلك، يمكننا التمييز في الواقع الكنسيّ اليوم ما بين تيّارين. التيّار الآبائيّ الأمين على التراث، أو التقليد، مع عدم قبوله باستنساخ كلّ ما قاله الآباء حرفيًّا من أساسيّ وثانويّ على حدّ سواء. هذا التيّار الأصيل يقوم على مواجهة تحدّيات العصر الراهن كي تقول الكنيسة كلامًا يستجيب لمقتضيات الحياة في عصرنا الراهن، لا أن يكرّر كلامًا قيل منذ قرون عدّة، قد لا يجيب على تساؤلات معاصرة. ولا يقبل هذا التيّار بالقول إنّ عصر الآباء قد انتهى، بل هو مستمرّ إلى مجيء الربّ في اليوم الأخير. فالقول بأنّ عصر الآباء انتهى كأنّه يقول بأنّ النبوّة قد انتهت في الكنيسة.
التيّار الثاني هو ما أسميناه بالتيّار “السلفيّ” المسيحيّ، وقد وصفنا قصدنا بهذه الصفة في مقالتنا الأسبوع الماضي على موقع “النهار”. هذا التيّار يقوم على تبنٍّ حرفيّ لكلّ ما قاله الآباء لا فرق ما بين أساسيّ وغير أساسيّ، فيتغافل عن السياق الذي وردت فيه النصوص، وعن الظروف التي دعت إلى قوله، ويدعو إلى تطبيقه في عصرنا الحاضر، متجاهلاً واقع المؤمنين وظروفهم والسياقات المحيطة بهم. فيتغرّب أتباع هذا التيّار عن الواقع، ويحيون في عالم متوهم من بنات أفكارهم المغلقة.
يجدر القول أيضًا بأنّ الآباء الذين دافعوا عن العقيدة كانوا، بالإضافة إلى تقواهم وممارستهم العبادات، حائزين على معرفة شاملة بعلوم زمانهم من فلسفة وحقوق وبلاغة وأدب وشعر ولغات، لذلك سمّتهم الكنيسة بـ”معلّمي المسكونة”، لأنّهم ساهموا بمؤلّفاتهم العلميّة بثبيت العقيدة الكنسيّة. مَن يريد أن يكون آبائيًّا أصيلاً عليه أن يمتلك كالآباء الأقدمين، بالإضافة إلى العلم اللاهوتيّ، علوم زمانه، وبخاصّة ما له علاقة بالعلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، لا أن يحتقر العلم والعقل ويأسر نفسه بالحرف.
جريدة النهار
28 نيسان 2017