الظهورات ما بين اللاهوتيّ والدعائيّ

الأب جورج مسّوح Saturday May 6, 2017 184

تفاقمت مؤخّرًا ظاهرة دينيّة-شعبيّة في الكنائس كلّها على السواء، باتت مرَضيّة لكثرة انتشارها على وسائل التواصل الاجتماعيّ مثل النار في الهشيم، هي الانتشار المرضيّ لأخبار وقصص عن ظهورات لقدّيسين وقدّيسات ورسائل وأعاجيب وخوارق موسميّة… وقلنا إنّها ظاهرة دينيّة-شعبيّة لأنّها تكتفي بالظواهر المحسّوسة، أو بما قد تشكّله أذهان المؤمنين من أوهام يعتقدون عن خطأ أنّها من المحسوسات. كما أنّها لا تغوص، لاهوتيًّا وكتابيًّا، في جوهر الدين والممارسة الإيمانيّة المستقيمة.

لا ريب في أنّ تعميم الأخبار عن هذه الظواهر عدا عن أنّها تسهم في تعميم الجهل الدينيّ والتسطيح المعرفيّ، وتقضي على النقاء الروحيّ من حيث تحوّل معظمها إلى مهرجانات وأماكن تسوّق ورحلات سياحيّة، فإنّها تحولّت لدى المعتقدين بها إلى تكفير غير المؤمنين بها، وتمييز الناس ما بين مؤمنين وتقاة من جهة، وهراطقة وشياطين من جهة أخرى، لأنّها بالنسبة إليهم أحد أساسات الدعاية الداعمة لصحّة الإيمان. هنا تجدر الإشارة إلى أنّ الكنيسة لا تجعل الأعاجيب والظهورات من أركان الإيمان بل من أعراضها الثانويّة، ودليلنا إلى ذلك أنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة لا تشترط في إعلان قدّيسيها وقدّيساتها أن يكونوا قد اجترحوا العجائب… العجائب غير أساسيّة وليست برهانًا على قداسة أحد ! القداسة هي قداسة الحياة.

يبدو أنّ ظهورات السيّد المسيح بعد قيامته من بين الأموات قد ألغت أهمّيّة أيّ ظهور لأيّ كان من بعده. وهذا يبدو جليًّا في كتب العهد الجديد التي تتحدّث عن هذه الظهورات. فتوما الرسول الذي رفض الإيمان بقيامة يسوع قائلاً للتلاميذ الذين أخبروه أنّهم شاهدوا يسوع الناهض من الموت: “إنْ لم أبصر في يديه أثر المسامير، وأضع إصبعي في أثر المسامير، وأضع يدي في جنبه، لا أومن”، لكنّه سرعان ما بدّل رأيه وآمن حين ظهر الربّ أمامه، وخلص يسوع إلى القول: “لأنّك رأيتني يا توما آمنت ! طوبى للذين آمنوا ولم يروا” (يوحنّا 20، 24-29).

يسعنا أن نقول، تعليقًا على هذه الحادثة، أنّ المسيح قد أعلن الطوبى “للذين آمنوا لم يروا”. فالطوبى للذين لم يروا وآمنوا مصدّقين البشارة الرسوليّة منذ نشأة الكنيسة إلى اليوم، فإنّهم سوف يعاينون المسيح بطريقة أخرى. كيف؟ يقول القدّيس كيرلّس الإسكندريّ (+444) في تفسيره لهذه الحادثة: “المسيح يحلّ ويظهر علينا جميعًا بشكل منظور وغير منظور، منظور بالجسد وغير منظور كإله. إنّه يسمح لنا (كما سمح لتوما) بلمس جسده المقدّس ويعطينا هذا اللمس، ونحن، بنعمة الله، نتقدّم للمشاركة في البركة السرّيّة، ونأخذ المسيح بأيدينا، كي نؤمن بثبات أنّه حقًّا أقام هيكل جسده”.

أمّا تلميذا عمواس، وكانا يعرفانه من قبل، لـمّا ظهر أمامهما يسوع القائم من بين الأموات وسار معهما لساعات لم يعرفاه، لكنّهما عرفاه على العشاء حين “أخذ خبزًا وبارك وكسر وناولهما” (لوقا 24، 13-35). لقد أراد يسوع من هذه الحادثة أن يقول لتلميذي عمواس، وعبرهما لكلّ المؤمنين به، أنّ يسوع بات لا يُعرف بالعين المجرّدة، بل في الكأس المقدّسة، في العشاء المقدّس، في القدّاس الإلهيّ، في المناولة.

قالت إحدى فتيات الكنيسة التي أخدمها، في أحد اجتماعات حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، إنّ بعضهم يسأل لماذا ظهر الربّ على بولس الرسول في طريقه إلى دمشق، وليس على أحد سواه؟ ثمّ أردفت قائلة كلامًا لا يقوله الكثير من المدّعين العلم اللاهوتيّ: “ربّما المسيح قد ظهر لجميع الناس، لكنّ بولس فتح عينيه جيّدًا فرآه”. فما علينا سوى أن نفتح أعيننا جيّدًا لنرى المسيح والقدّيسين والقدّيسات في الفقراء والمحتاجين والنازحين والغرباء… لا في الضباب أو في السحابة أو في قلب الباذنجانة !

الأب جورج مسّوح

“النهار”،6 أيار 2017

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share